30 أكتوبر 2025
تسجيلأعذب ما يُمكن أن يُخلق في عالم الإبداع، ذلك الذي خرج من رحم المعاناة، يكون الابتكار حينها فريدًا، فبقدر ما ضاقت الظروف التي صُنع فيها العمل، يأتينا بعدها كبيرًا، عظيمًا، وخالدًا في أحيانٍ كثيرة. ولعلها بيئة بشعة، شنيعة بلحظاتها، قبيحة بضغوطاتها، أي أن الوجود الذي صار، كان خاليًا من الجمال، ولكن النفس التي وُجدت على تلك الساحة نفس جميلة، استطاعت أن تُخرج من لب الألم لذة للإنسان، وبلسمًا لجوارحه، شيئًا جاء للتاريخ بقصد الخلود. إن أوضح الآداب على سبيل المثال "أدب السجون"، ولعله من وجهة نظر خاصة أقسى أنواع الأدب، وأشده وجعًا من جميع النواحي النفسية والجسدية والإنسانية أيضًا، هو إنتاج يخرج من الحفر والسراديب، نور ينبثق من العتمة، وصوت للحرية يخرج من صمت الزنازين. أو أنها الزوايا المنفذ الوحيد للأمل، والمخرج اليتيم للخيال، في ظل الحرمان من السماء والهواء والاتساع والأفق، أو هو الشرخ الذي مات في الجدار، طعنه ليبقى للأحياء بصيص الحرية، ورائحتها المفقودة. ولعل أجمل العبارات التي قرأتها في هذا المجال، كانت في رواية تلك العتمة الباهرة للطاهر بن جلّون، إذ يقول على لسان عزيز المُعتقل "كان العفن ينال من أجسادنا عضواً تلو آخر، والشيء الوحيد الذي تمكنت من الحفاظ عليه هو رأسي، عقلي. كنت أتخلى لهم عن أعضائي ورجائي ألا يتمكنوا من ذهني، من حريتي، من نفحة الهواء الطلق، من البصيص الخافت في ليلي". وصور الشاعر اليمني محمد محمود الزبيري لحظة خروجه من السجن بقوله: خرجنا من السجن شم الأنوف كما تخرج الأسد من غابها، نمر على شفرات السيوف ونأتي المنية من بابها إن أدب السجون عبارة عن مدينة للحزن، ولكنها مضيئة، الزائر فيها يجهل ألم الساكن، ولكن يطيب له العبور فيها، والنظر من بعيد إلى تجمّع المساجين على موائد الأدب، وكيف أنهم يغزلون من مرارتهم قصائد محلاة، أو رواياتٍ تنشد الحرية للإنسانية والإنسان نفسه، صراع بين الصخب والسكينة، بين الوحشية والسلام، ومحاولة حثيثة في رسم صورة واضحة وجلية لـ "كيف ينبغي أن تكون الإنسانية".