13 أكتوبر 2025
تسجيلالعصا ذلك الغصن الجاف الذي تحول الى رمز للسلطة الدينية والدنيوية وللقوة والسيطرة، فهذه الأداة البسيطة التي كانت مجرد غصن شجرة غير مشذب استخدمه الإنسان القديم لنكش الأرض بحثاً عن دودة هنا او حشرة هناك لتكون طعاماً له، في فترة اعتمد فيها على الجمع والالتقاط لسد رمقه وإقامة أوده، ليكتشف فيما بعد إن لهذا الغصن وظائف أخرى، فبواسطته تمكن من صيد الحيوانات بطيئة الحركة والتقاط الثمار العالية، ثم تمكن في مراحل لاحقة من تشذيب الغصن وإعطاء طرفه شكلاً حاداً ليتحول الى رمح يأخذ مدى أطول لتحقيق هدفه، ثم تعلم الإنسان بعد أن اكتشف الزراعة حفر الأرض بالعصا لإلقاء البذور وتغطيتها بالتراب. شعور الإنسان البدائي بالامتنان لهذه الأداة البسيطة استمر حتى بعد أن تجاوز الإنسان مراحل الطفولة الإنسانية الأولى لتتحول العصا لدى إنسان الحضارات الأولى الى رمز ديني ودنيوي كبير حيث لا تجرى الطقوس الدينية في المعابد القديمة بدون العصا المقدسة. وتأتي عصا نبي الله موسى (عليه السلام) كأشهر عصا في التاريخ، والتي كانت ملازمة له في حله وترحاله، وقد كان يحمل عصاه عندما سأله الله (تبارك وتعالى) (ما تلك بيمينك ياموسى، قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى )، النبي موسى ارتبط في كل مراحل دعوته بعصاه التي أصبحت معجزة من معجزات الله، فعصاه التي ألقاها لتتحول الى ثعبان التهم ثعابين سحرة فرعون، وشق بها البحر ليهرب وقومه من بطش فرعون. كما تعد منسأة نبي الله سليمان (عليه السلام) من أشهر العصي التاريخية وهي عصاه التي مات وهو يتوكأ عليها حتى أكلت الأرضة أو دابة الأرض العصا فخر ساقطاً. كذلك تعد العصى الذهبية التي وجدت في مقبرة الملك الفرعوني الشاب توت عنخ أمون احد أشهر العصي التاريخية ونُحت فوقها تمثال للملك الشاب بكامل أبهته الملكية. وتمثل العصا لدى قدماء المصريين رمزاً لشجرة الخلق حيث نقش عليها اسم الإله، إذ تقول الأسطورة ان (الألهة الفرعونية إيزيس) عثرت على جثة زوجها في تابوت مثبّت بداخل شجرة ليظل الفراعنة يتداولون صولجان إيزيس المقدس. ثم تحولت العصى إلى رمز مقدس لا غنىً عنه للسلطة الدينية لدى المسيحيين، حيث لا تكتمل مسؤولية الكهنة والأساقفة دون العصا التي يتسلّمها (الأسقف) من المذبح ليكون مسؤولاً أمام الله، ويسمونها عصا الرعاية (العكّاز) الذي تعلوه حيّتان معدنيتان في إشارة لعصا موسى التي رفعها في البريّة، منذ ضْرِبْ بِعَصَاه الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا. وحمل الأباطرة اليونانيون الأوائل الصولجان وهو عصا طويلة على قمتها حلية معدنية، ثم حمله القضاة والزعماء العسكريون والكهنة. كما أمسك به الأباطرة الرومان والأوروبيون في القرون الوسطى كرمز للملك والسلطة، حتى انه يقدم للامبراطور أثناء تتويجه ليمسك به بعد ذلك طوال فترة حكمه. واعتبر المسلمون العصا سنة الأنبياء وزينة الصلحاء، وقد كان الرسول الكريم محمد (صلى الله عليه وسلم) يحمل معه عصا أينما ذهب، وأصبحت العصا ملازمة لخطباء الجمعة في المساجد، وعدت رمزاً لوجاهة الرجل وأناقته لدى بعض الشعوب الإسلامية وغير الإسلامية ايضاً، كما اشتهر المطوع أو معلم الكتّاب بالعصى حتى أصبحت رديفة له يحملها معه ويضعها بجانبه عند تدريس الصبيان لتأديبهم. والعصا رفيقة الشاوي يهش بها على غنمه ويسيطر الراعي بها على إبله ويحملها البدوي أينما حل وارتحل. وقد كانت العصي على الدوام جزءاً من التراث الشعبي لشعوب كثيرة في أنحاء العالم حيث تظهر إحدى اللوحات الجدارية الفرعونية أشخاصا يرقصون رقصة التحطيب التي ما تزال تمارس في صعيد مصر كرقصة تراثية شهيرة. ويستخدم رجال قبائل الماساي الافريقية عصا كبيرة وقوية للرقص، كما يرقص الرجال في دول الخليج بالعصي في رقصة العيالة والحربية الشهيرة، وتدخل العصي ضمن رقصة العرضة كبديل للسيوف او البنادق. كذلك تعد العصي الأداة الأساسية التي تمارس بها الكثير من الألعاب الرياضية القديمة والحديثة مثل القفز بالزانة والغولف والبولو وغيرها. كما دخلت كلمة العصا للدلالة على أمور كثيرة فيقال ألقى عصا التَّرحال أي استقر وترك السفر، وشقَّ عَصَا الطَّاعة أي خالف وعصى وتمرَّد، وعلى طرْفِ العَصَا أي قريب وحاضر، كما يقال فعل كذا بعصًا سحريَّة أي بطريقة مدهشةٍ وغير متوقَّعة، ويقال قرَع له العصا أي نبَّهه، ويقال لا تدخل بين العَصَا ولحائها أي لا تُفسد بين المتصافين، ولا ترفع عصاك عن أهلك أي لا تخلهم من التَّأديب، ولا يضع العَصَا عن عاتقه أي كثير الأسفار، كما يقال لوت الأيامُ كفَّه على العصا بمعنى هرم وكبر، وكذلك ليِّنُ العَصَا بمعنى رقيقٌ لطيفٌ طائعٌ، وكذلك يقال هو بين العَصَا ولحائها أي موافق لصاحبه لا يخالفه الرأي.