09 نوفمبر 2025
تسجيلهناك لحظات متوترة، تتفجر فيها مشاعر متناقضة في أعماقنا تجاه أحداث ووقائع حاسمة، ولا يشفع للإنسان فيها أن يتردد أو أن يكون محايدا،فلا بد له أن يختار ما بين الأبيض أو الأسود، وليس أن يحتال بالوقوف عند دائرة الرمادي ما بين أبيض وأسود، وهذا ما أدركه الفيلسوف الفرنسي الشهير جان بول سارتر، فلم يكن أمامه إلا أن يقف مناصرا ومؤيدا للاحتلال الفرنسي الجاثم على تراب الجزائر، أو أن يقف مع جبهة التحرير الجزائرية التي كانت تقاتل ضد هذا الاحتلال لكي يتحقق للجزائر الاستقلال، وقد اختار سارتر أن يقف مع الحرية، وكتب كتابا مهما، حدد فيه موقفه الواضح بعنوان: عارنا في الجزائر. كان بإمكان سارتر أن يكتفي بما أنجزه من مؤلفاته العميقة في ميدان الفلسفة الوجودية، ومن أبرزها كتابه الضخم- الوجود والعدم، لكن وجدان الإنسان وطبيعة المثقف الملتزم دفعاه للوقوف مع الحرية دون أي تردد أو تحايل، وخلال مرحلة المد القومي والثوري في أرضنا العربية، كان لدينا فنانون جادون وملتزمون، من أشهرهم في مصر الشيخ إمام، وفي لبنان مارسيل خليفة، وفي العراق فرقة الطريق وفؤاد سالم، وفي سوريا سميح شقير الذي كنت أتابعه بكل تقدير وإعجاب منذ بداية سطوع نجمه في أوائل الثمانينيات من القرن العشرين الغارب، لكني- وقتها- لم أكن أعرف الكثير عن حياته، برغم أني كنت أحفظ الكثير من أغنياته، وأهديها لأصدقائي الذين يتغنون بالحرية ويحبون الفن الجاد الذي لا يدغدغ العواطف، بقدر ما يشارك في تحديد المواقف. إذا كانت الأغنية تتشكل من تلاقي الموسيقى مع الكلمات والصوت، بمعنى أن هناك موسيقارا وشاعرا ومطربا مؤديا، فإن سميح شقير يتفرد ويتميز بأنه هو الذي يكتب كلمات أغانيه وهو الذي يلحنها ويقوم بغنائها في وحدة فنية متجانسة وشاملة، وإذا كان هناك من ينغمسون في الطائفية، خصوصا في هذا الزمن الذي تناثر فيه أبناء العروبة شيعا متنافرة وطوائف متناحرة، فإن سميح شقير الذي ولد في مدينة السويداء الشهيرة، كما ينتمي للطائفة الدرزية، ليس طائفيا ولا مذهبيا، وإنما هو إنسان عربي أصيل، يوظف طاقاته الفنية والإنسانية لخدمة قضايانا العربية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية التي نسيها أو تناساها كثيرون منا في زحام الفوضى والاضطرابات التي لم يعد يخلو منها مكان،لكن سميح شقير منذ نحو سنتين لم يعد سميح شقير الذي عرفه متابعوه ومحبوه قبل هاتين السنتين! كان سميح شقير يشارك مشاركة فعالة وصادقة في حلقات النضال الشوري ضد القوى الخارجية المعادية لتطلعات جماهير الأرض العربية، لكنه منذ نحو سنتين أدرك أن النضال الثوري لم يعد ضد أعداء الخارج وحدهم، فهناك طغاة مستبدون موجودون في الداخل، وكما وقف جان بول سارتر ضد سياسة وطنه فرنسا خلال حرب تحرير الجزائر، فكذلك وقف سميح شقير- بكل شجاعة- إلى جانب الانتفاضة السورية التي كانت انتفاضة سلمية في البداية، لكن النظام السوري واجه المتظاهرين السلميين بالدبابات والطائرات، فاستشهد الأطفال ومعهم الأمهات، ولم يكن هناك مجال لأن يتردد الفنان الملتزم، أو أن يكون محايدا، فكان على سميح شقير أن يختار ما بين الأبيض والأسود،لا أن يحتال بالوقوف عند دائرة الرمادي ما بين أبيض وأسود، ومن هذا المنطلق انبثقت أغنية- يا حيف- الشهيرة والمؤثرة، وهي الأغنية التي انبثقت من قلب وعقل صاحبها في أعقاب المجزرة الدموية التي شهدتها مدينة درعا، وأعترف بأني قد بكيت بكاء مرا حين استمعت إلى هذه الأغنية لأول مرة، وستظل – يا حيف- نموذجا لاندماج الفنان الإنسان مع قضايا الجماهير المتطلعة للحرية والكرامة الإنسانية.