10 سبتمبر 2025
تسجيلتقول الحكاية، التي لا تُعرف حقيقتها من مجازها، ولكن يرجعها بعض المصادر إلى زمن الاجتياح التتري، تقول إن قرية في ذلكم الزمان تعرضت لهزيمة واحتلال مؤقت من قبل قوات التتار، ففر رجالها إلى الجبال، وبقي الاحتلال بها يوما أو بعض يوم. وقبل رحيلهم عنها، اغتصب المهاجمون كل نساء القرية إلا واحدة، أبت أن تستسلم للغاصب. ليس ذلك فحسب، بل قاومته وقتلته وقطعت رأسه، وخرجت تمشي بها مرفوعة الهامة في طرقات القرية. فلما رأت بقية النساء المغتصبات فِعْلها خِفن على أنفسهن من العار والفضيحة، فقررن أن يقتلنها، ويتخلصن منها، حتى لا يُعيرْن بها. وحتى لا يُقال: لماذا لم تصمدن مثلها، وتدافعن عن شرفكن؟ فصارت القصة، حقيقة كانت أو مجازا، مثلا يسري في التاريخ، يحقق قول الله تعالى في قوم لوط، (قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون). وكلما مر الزمان وتقدمت الأيام، صار انطباق المثل على حال الناس أشد وأوضح؛ يقتلون الشرف من أجل أن يحيا العار، أو هكذا يقولون. وفي مصر، قديما، سرى بين العوام مثل آخر، وما زال يتردد حتى يوم الناس هذا، في بعض المجتمعات العربية. لكن قصة هذا المثل معروفة وموثقة. يقول المثل «اللي استحوا ماتوا». وحكايته تَروي أيضا قصة نساء كن في حمام عام، بأحد أحياء القاهرة الفاطمية، في عام 1889 أيام الحكم العثماني، وكانت الحمامات الشعبية قد انتشرت بشكل كبير. ولسوء الحظ اشتعلت النار في الحمام، وشب حريق كبير، وتفاجأت النساء بالنيران وهن شبه عاريات، فبادرت معظمهن بالفرار على حالهن ذاك، بلا ملابس تقريبا، إلا القليل منهن، أبَيْنَ أن يخرجن على الناس بلا حجاب وبلا غطاء، فنجت الفارات وماتت الباقيات. وفي موسوعة «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» للمؤرخ الكبير عبد الرحمن الجبرتي، روايات تعضد موثوقية هذا المثل لكنها ترده إلى أوائل حكم محمد علي باشا، بتفاصيل مختلفة قليلا. لكن على كل حال فقد نجت العاريات، وماتت المُستحيات، ليصبحن مثلا آخر في التضحية والاستشهاد من أجل الثبات على الحق والمبدأ والحفاظ على الشرف ولو كان الثمن هو فقدان الحياة. وبين هاتين القصتين والمَثَلَيْن تقف غزة صامدة أمام محاولات عدوها، مدعوما بالكثير من إخوتها وأقرب الناس إليها، قتلها حتى لا تكون هي الوحيدة الشريفة بينهم، وحتى لا تكون هي الوحيدة التي تتمسك برفع راية الجهاد والمقاومة، وإعلاء كلمة الله. تقف غزة وحدها في مواجهة من يريدون إخراجها من عالمهم الملوث بالخنوع والاستسلام والتحلل، مثلما أراد قوم لوط إخراج الطاهرين من قريتهم. وتقف غزة وحدها صامدة وسط الجحيم مثل الطاهرات اللاتي رفضن الخروج عاريات وفضلن الموت شريفات عفيفات مهما كانت التضحيات. لكن الشعوب لا تموت ولا تزول ولا تختفي نتيجة المقاومة والصمود، نعم قد يستشهد البعض لكن مآل البقية إلى السعادة والنصر والحياة الكريمة. قد يتألم البعض لكن مصير الجميع أن يحيا حياة الكرامة والعزة. لا شك عندي في أن غزة ستنتصر بإذن الله، وستخرج غزة من محنتها هذه أقوى مما كانت من قبل. وليس بالضرورة أن يكون انتصار غزة بالقضاء الكامل على إسرائيل هذه المرة، ولكن للنصر وجوها كثيرة وأشكالا أخرى غير الظهور العسكري الكامل على العدو، فاندحار العدو دون أن يحقق أهدافه كلها أو الرئيسية منها، حتى ولو لم تتمكن المقاومة من تدميره بالكامل، هو انتصار لها بل وانتصار كبير، وإفشال المقاومة خطط الأعداء وإحباط أمانيِّهم في مشاريع سياسية واقتصادية كثيرة في المنطقة هو اندحار للعدو لا يقل قسوة عليه من الهزيمة العسكرية الكاملة. ستنتصر غزة لأنها أحيت إيمانا كاد أن ينمحي من القلوب وثبتت أركان عقيدة كادت أن تختفي من الأفهام والصدور ورسخت مبادئ وحققت وعودا ظن الكثيرون أنها كانت فقط من المعجزات، وعلى رأس تلك الوعود أن فئة مؤمنة قليلة يمكنها أن تهزم وتغلب فئة أكبر منها بكثير فقط بشرط تحقق الإيمان الصادق والإعداد قدر الاستطاعة، ستنتصر غزة وسيبوء أعداء غزة بالخزي والعار والهزيمة والصغار. وإن غدًا لناظره قريب.