19 سبتمبر 2025

تسجيل

أزمة الهجرة السرية.. تحدد مصير الانتخابات الرئاسية لفرنسا

13 ديسمبر 2021

أقضي هذه الأيام إجازتي في الريف الفرنسي، وأعيش ككل الناس تحت وطأة الأحداث الفرنسية التي تصاب بحمى الانتخابات الرئاسية كل خمس سنوات، التي ستكون في مايو القادم أي لا تفصلنا عنها سوى شهور قليلة، وهي تشير إلى أن هذه الانتخابات ليس لها من محور رئيسي سوى مواقف المرشحين من الجالية المسلمة في فرنسا وتنامي عدد المسلمين في هذه البلاد، كما أن هذه الانتخابات أكدت وجود تصدع خطير في التحالف الغربي، حيث اكتشفت الحكومة الفرنسية من خلال ويكيليكس أن وكالة الأمن القومي الأمريكي تتنصت على الرؤساء الفرنسيين فحلت حالة من انعدام الثقة في الحليف الكبير ونددت حكومة باريس بهذا العمل المشين، كما كشفت عن عمليات تجسس قامت بها برمجيات (بيغاسوس) الإسرائيلية لحساب دول أجنبية إلى جانب الفوارق الشاسعة بين مقاربات الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي لأزمة الهجرات السرية القادمة من جنوب المتوسط و(المكتسحة لأوروبا)، وتابعت حكما صادرا من قبل محكمة حقوق الإنسان الأوروبية ضد الدولة الفرنسية يدين ممارسات الشرطة الفرنسية ضد مواطنيها ومقيميها الذين لهم وجوه مغاربية أو أفريقية لمجرد لون بشرتهم المختلف، وهو قرار محكمة يؤشر إلى العنف الاجتماعي الذي استقر في الحياة اليومية الفرنسية، كما أنني ألاحق الأحداث العالمية والإقليمية لكن من منظور فرنسي وأوروبي فأتفاعل مع وسائل الاتصال وأطالع الصحف وأشاهد الفضائيات واكتشف أن صداما قادما بين الغرب والإسلام تمهد له بأجندات رهيبة فلول ولوبيات يمينية وصهيونية، وهي التي توظف بعض عمليات إرهابية منعزلة على خلفية دينية لتدفع الطبقة السياسية الباريسية إلى استغلال معضلة الهجرة السرية من الجنوب للشمال لتحولها إلى ملف سياسي بل سياسوي لكل الأحزاب الأوروبية في مرحلة الانتخابات الراهنة. وبالطبع فإن السبب الرئيسي هو استراتيجية الأحزاب التقليدية لقطع الطريق أمام الأحزاب اليمينية المتطرفة، التي رفعت منذ نصف قرن شعارات وقف الهجرة وحسب تعبيرها “تطهير المجتمعات الأوروبية المسيحية من المسلمين”، فالإسلام الذي هو الديانة الثانية عددا في أوروبا بعد المسيحية الكاثوليكية يعتبر في المخيال الشعبي البسيط هنا في بلدان الاتحاد الأوروبي دخيلا بل وغازيا، لأن التاريخ العسير والمعقد في العلاقات بين أوروبا والعالم الإسلامي ترك في وجدان هذه الأمة المسيحية آثارا من الأوهام والأساطير استغلها الصليبيون الجدد للتلاعب بعقول الجماهير المحدودة المعرفة وأوهموها بأن القارة الأوروبية مهددة بالغزو الإسلامي (أشرس زعماء هذا التيار الاستئصالي جزائري فرنسي من أصول يهودية اسمه إيريك زمور مرشح للرئاسة باسم اليمين المتطرف وهو ما يقسم جبهة هذا اليمين العنصري ويمنح فرصة أكبر لمرشحة اليمين الجمهوري السيدة فاليري بيكريس). وبالطبع فإن ما حدث من هزات وزلازل في العالم العربي غربه وشرقه لم يكن بريئاً وبعيداً عن الأزمة، لأن تفاقم المشاكل العويصة في أغلب المجتمعات العربية على مدى نصف قرن مهد لهذه الهزات العنيفة التي سماها بعضنا بالربيع والبعض الآخر بالفوضى حين اهتزت توازنات جائرة وانقلبت صفحات قديمة وتحطمت أصنام عقيمة لتحل محلها مبدئيا فوضى عارمة حين لم تعد لدينا مؤسسات دولة ولم يمسك بالقيادة زعماء خبروا السلطة وتنزهوا عن سفاسف الحزبيات والتجاذبات ليقيموا دول الحق والعدل وهو ما لم يحدث لأسباب معروفة، أولها أن الثورات عادة لا تكتمل فتظل نهبا للثورات المضادة وحركات الردة، وهذه حقيقة منذ الأزل ولم تشذ عنها هزات الربيع العربي وثانيها أن النخب التي أسهمت في التغيير ودفعت ثمنه غاليا بالسجون والمنافي والاستشهاد لم تكن مهيأة لممارسة السلطة فحل العجز محل الاستبداد. واستغل اليمين المسيحي في الغرب هذه الهنات ليعلن أن الإسلام هو رديف الإرهاب وصنو العنف وأن الهجرة السرية وحتى الجاليات المسلمة في أوروبا ما هي سوى حصان طروادة لغزو القارة الأوروبية وأسلمتها مع مرور الزمن!، حتى أن روائيا فرنسيا مشهورا اسمه (هوالباك) نشر رواية بعنوان (خضوع) موضوعها الخيالي هو وصول الإسلاميين لحكم فرنسا ذات يوم وإعلان فرنسا ولاية تابعة للخلافة، ولكن الملف الراهن محل الجدل القائم هو ملف قوارب الموت التي تبحر من السواحل الجنوبية وبخاصة المغاربية لتحمل مجموعات من الشباب العربي والأفريقي اليائس البائس نحو الجنة الأوروبية الموعودة وبالفعل وصلت سنة 2020 إلى أوروبا عشرات الآلاف من هؤلاء المعذبين في الأرض وهلك في قاع البحر عدد يقدر بثلاثة آلاف عدا المفقودين الذين لم يعثر لهم على أثر، ويقال إن بعضهم رحل إلى بؤر الأزمات في ليبيا والعراق وسوريا مع داعش التي عادت هذه الأيام إلى العمل المسلح. ثم إن المقاربة الأوروبية للملف تبدو سطحية وسياسوية ليس فيها تحليل صادق وعميق لطبيعة الأزمة ولا لمنطق العلاقات الدولية بين الشمال والجنوب، لأن أول رد فعل قامت به أوروبا في اجتماع بروكسل حول الهجرة السرية هو الاتفاق على تشكيل قوة عسكرية تتركب من حاملة طائرات وما يتبعها من بواخر حربية وحددت لهذه القوة أهدافا ضبابية هلامية لم يفهمها حتى رؤساء الأركان الأوروبيون فهل هي قوة لدك موانئ انطلاق المراكب المحملة بالبشر المهاجر أم هي قوة لإعادة احتلال الموانئ الليبية والصومالية والتونسية والمغربية!، وكيف سيكون ذلك متاحا بينما الغرب لم يعد الغرب القديم المتحمس لفرض الاستعمار الجديد، لأن الرأي العام هنا في أوروبا والغرب عموما لم يعد يسمح باستقبال المطارات الغربية لنعوش القتلى من جنوده بلا شرف ولا سبب معقول. بقي إذن للسياسيين الأوروبيين استعمال بعبع تخويف المهربين سماسرة البشر على السواحل الجنوبية للمتوسط حتى يرتدعوا ولكن هيهات فالفوضى الشاملة التي عمت الشرق الأوسط بالصراعات الطائفية والمصلحية والأيديولوجية لم تعد تسمح ببسط القانون ولا الأمن ولا بحماية أحد من أحد وفرنسا سيدة العارفين، لأنها جربت الدخول إلى المستنقع الليبي ثم المالي لأسباب داخلية ودفعت الثمن غاليا ووصل الإرهاب إلى قلب باريس. المعضلة اليوم أصبحت أيضا أوروبية أوروبية أي بين البلدان المتاخمة للمتوسط وبخاصة إيطاليا وإسبانيا وفرنسا وبين البلدان الأوروبية الأخرى المقصودة من قبل المهاجرين السريين مثل ألمانيا وبريطانيا وبلجيكا وسويسرا والبلدان الإسكندينافية فحكومة روما تقول إن إيطاليا هي المرمى الأول وسواحلها قريبة من أفريقيا ومن الشرق الأوسط وبلوغها أيسر لمراكب الموت، حيث يصل إلى جزيرة بانتيليريا وجزيرة لمبادوزا حوالي مائة ألف مهاجر سنويا بالنظر إلى المسافة القصيرة بين هذه الجزر الإيطالية وسواحل ليبيا وتونس (حوالي 70 كلم) يقطعها المهربون في بضع ساعات، وتطالب روما أن يتقاسم الأوروبيون جميعا تكاليف الإنقاذ والتجميع والمراقبة والإقامة المؤقتة لهذا السيل الجارف من الهاربين من جحيم الحروب الأهلية والفقر والجوع. إنني كمتابع أكاديمي للأحداث المتسارعة منذ نصف قرن أشم ريح صدام مبرمج جديد بين الإسلام والغرب تؤجج لهيبه لوبيات معادية للمسلمين وتطالب بإعادة الاستعمار بشكل مختلف ووضع الأيدي المتاجرة على ثروات الشرق ومقدراته حتى لو راهنت على الفوضى لا الخلاقة بل الهدامة وزرع بذور الطائفية والشعوبية في المجتمعات التي كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله وهي الحكمة التي أرجو ألا تنطبق على عرب اليوم التائهين (وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ) صدق الله العظيم، (112) سورة النحل. [email protected]