13 سبتمبر 2025

تسجيل

سحرة فرعون

13 أكتوبر 2011

ذكرت في مقالي السابق (لحوم العلماء مسمومة) بأن هناك أهمية كبرى لدور العلماء في إيصال العلم والحق للناس، ولكن الكثيرين من علماء الأمة الإسلامية اليوم للأسف أصبحوا موصّلين جيدين للعلم ولكنهم غير موصّلين للحق الذي أظهره الله على أيديهم وبيّنه واضحاً أمام أعينهم نظراً لاشتغالهم وانشغالهم بالعلم الذي أكسبهم القدرة على تمييز الحلال من الحرام والحق من الضلال، فأصبحوا بذلك أكثر الناس معرفة لله تعالى (إنما يخشى اللهَ من عباده العلماء) وأصبحوا كذلك أكثر الناس معرفة بالحق والعدل والإحسان، وبالتالي فهم أدرى الناس بالظلم والجور والطغيان. وكما أن لعلماء الأمة الإسلامية دورا كبيرا وبارزا في نهضتها وتقدمها، فإن لهم كذلك دورا كبيرا في تخلّفها وتأخّرها، وما تلك الثورات العظيمة في البلاد الإسلامية إلا تجربة حيّة وواقعية على الدور السلبي والمخزي الذي اتخذه بعض علماء الأمة تجاه حكم الطغاة في تلك البلاد الثائرة على الظلم والطغيان والكفر والضلال، فما كان يحدث في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا وغيرها من الدول العربية والإسلامية إنما هو ظلم واضح للجميع وفساد منتشر في البلاد وطغيان جاوز الحدود، ناهيك عن الكفر والضلال الذي أجبر به هؤلاء الحكام شعوبهم إلى الكفر بخالقهم والإيمان بحكمهم واستبدادهم واستعبادهم للناس، ناهيك عن مضاهاتهم لليهود والنصارى والمجوس وأعداء الإسلام في قتلهم وسفكهم لدماء شعوبهم بمجرد أن تلك الشعوب طالبت بمزيد من الحرية التي وهبها الله للناس جميعاً، وطالبت بالعيش الكريم دون هوان ولا ذل ولا انتقاص لكرامة أو حقوق، ولكن أولئك الحكام ظنّوا أنهم هم الملوك الذين لن يزول ملكهم ولا سلطانهم أبد الدهر، ففعلوا المجازر والكبائر في حق شعوبهم التي لا حول لها ولا قوة في كثير من الأحيان. إن بعض العلماء وللأسف، أسهموا بشكل كبير في تنصيب هذه الأوثان والأصنام عقوداً من الزمن على الكراسي، يجثمون على أنفاس الناس.. يأمرونهم بالمنكر وينهونهم عن المعروف، بل ويقتلون أبناءهم ويغتصبون نساءهم ويسلبون أموالهم وأراضيهم وكل ممتلكاتهم، فلا أقاموا العدل على الأرض.. وإنما كانوا مفسدين بحق، ضالين مضلين، لم يسلم من شرّهم أحد، ولم يفلت من عقابهم أحد، فلم يجدوا من يردعهم من عقلاء الأمة وعلمائها الذين نعوّل عليهم كثيراً في قيادة الجموع وتشكيل الرأي العام، ولكنهم وللأسف أسهموا بتأييدهم لهؤلاء الحكّام الظلمة الفجرة الكفرة وبنصرتهم لهم ومدحهم والثناء عليهم أو حتى بسكوتهم على جرائمهم وفسقهم وفجورهم.. أسهموا معهم فكانوا خير معين لهؤلاء الحكام عندما جاملوهم على حساب تغليب شرع الله ونصرة دينه، فأفتوا لهم وخطبوا لهم، وألهوا الناس في فروع الدين وشغلوهم عن السؤال في الحكم بغير ما أنزل الله تعالى، فكانوا كالذين يخدّرون الشعوب ويلهونهم من أجل البحث عن لقمة العيش أو الملذات الدنيوية، ولا عجب إن زيّنوا لهم المنكرات والمحرّمات من أجل أن يزدادوا انغماساً في الملهيات عن أعظم وأهم هدف من وجودنا على هذه الأرض.. ألا وهو تطبيق شرع الله.. بين عباد الله.. في أرض الله. إن المتأمّل للتاريخ ليقرأ سِيَراً مشرّفة لعلماء لم يذعنوا للحكام ولا لنزواتهم وأهوائهم، فكانوا نعم الناصحين لله ولرسوله، لم يخشوا في الله لومة لائم، بل إن بعضهم عُذّب وقتل في سبيل كلمة حق قالها أمام سلطان جائر، فكانت منزلته عند الله أعظم وأكبر شأناً لأنه عظّم حكم الله في نفسه، فجازاه الله بأن عظم منزلته في نفوس الناس وفي الآخرة عندما يلقّب بـ"سيد الشهداء" فذلك الوسام الذي لا نظير له ولا مثيل. ولعل الحكّام الظلمة قد انتبهوا منذ زمن طويل إلى عِظم دور العلماء في إظهار الحق للناس بل وفي قيادة الشعوب للأخذ على يد الظالم، فكانوا كثيراً ما يقرّبونهم من مجالسهم ويدعونهم إلى ولائمهم حتى إن ولائمهم ليظهر فيها الترف والفسق فلا يكاد العالم يُنكر شيئاً مما يراه على تلك الموائد، فكيف سيُنكر ما بعد ذلك من الأمور الظاهرة من الظلم والعدوان، لقد اشترى هؤلاء الحكام العلماء فجعلوهم أبواق تسبّح بحمدهم وتهلّل لعظمتهم كسائر الأبواق من رجال السياسة والاقتصاد والإعلام أو أهل الفن والرياضة وغيرها، فأصبحوا معاً في خندق واحد معهم، لا يُنكرون منكراً ولا يأمرون بمعروف، بل أصبح بعضهم في أحسن حالاته منطوياً منزوياً على نفسه في بيته، محتجباً عن طلبته من طلبة العلم فلا يخرج إليهم ولا يبدي لهم شيئاً من انزعاجه أو حتى تذمّره، فكانوا كالشياطين الخرس التي تكتم علماً رغم تحذير الله ورسوله لهم بأن يلجمهم لجاماً من نار في الآخرة جزاءً وفاقاً لهذا السكوت عن قول الحق في زمن الظلم والفتن. مازلنا ننتظر دوراً أكبر وأعظم لعلماء الأمة الذين أغواهم الحكام وتعلّقوا بالدنيا ونعيمها الزائل بأن يرجعوا إلى صوابهم وأن يساهموا بشكل أكبر وأعظم شأناً من ذلك الدور الصغير الذي أسنده إليهم أولئك الحكام حتى أصبح بعضهم أضحوكة بين الناس من كثرة ما يجدونه خادماً للحكام بدلاً من أن يكون خادماً للعلم عابداً لله تعالى متبعاً هدي الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم، فهل سنشهد عودة لهؤلاء العلماء ولدورهم الجليل الكبير فيساهموا مع سائر أطياف المجتمع في تحقيق نهضة الأمم والشعوب أم أنهم سيكونون عوناً للفراعنة في ظلمهم وبطشهم وكفرهم بالله تعالى، وهل سيفعل علماؤنا كما فعل سحرة فرعون عندما سجدوا لله تعالى بعد أن جاءتهم البيّنات على يد موسى عليه السلام أم أنهم سيكونون من السحرة الجدد الذين استجابوا لفرعون وأيّدوه في ظلمه وكفره. قال تعالى (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى * قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى * قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى).