19 سبتمبر 2025
تسجيلالانتقال التدريجي لتركيا باتجاه أن تكون قوة إقليمية قائمة بذاتها في العهد الحالي جعل من إعادة الجامع رسالة للخارج بأن زمن التبعية التركية للغرب قد ولى سيمثل مشهد الصلاة الأولى التي تتزامن مع ذكرى الانقلاب الفاشل الذي دعمته العديد من الدول المعترضة على القرار اليوم غصة في حلوقهم قبل سنوات زرت كلاً من جامع أيا صوفيا وجامع قرطبة في رحلات مختلفة، في كلتا الزيارتين تملكني نفس الإحساس تكاد تشعر بزوايا المكان تئن بحثاً عن ركع سجود، تشعر بأنين خفي للمبنى الذي ظل مئات السنين يستقبل المصلين وانتهى به الحال معلماً سياحياً أجوف في إسطنبول عادت علامات الكنيسة المطموسة للظهور في المتحف، وفي قرطبة بني مذبح كنسي يتوسط المسجد وكلا المبنيين تنازعتهما هويات سابقة ولاحقة ولكن بغض النظر عن ذلك كله بإمكانك تجاوز كل ذلك الجدل بين التاريخ والسياسة حين تقف أمام المحراب مستحضراً تكبيرات أجيال من المصلين يدخلون تباعاً مستجيبين للأذان يرتفع من مآذن هذه المساجد وفي الحالتين بإمكانك تخيل تلك اللحظات التي توقفت فيها الصلاة وأوصدت الأبواب وكيف كان أثر ذلك في قلوب المسلمين، واحد من هذين المسجدين يعود اليوم ويصدح بالأذان، ونسأل الله أن نعيش لنسمع الأذان من مآذن جامع قرطبة الكبير. وبعيداً عن الجانب الروحي المتعلق بعودة أيا صوفيا جامعاً أود التوقف عند الأبعاد السياسية لهذا القرار، خاصة وأن ردود الأفعال السياسية عليه جاءت متفاوتة ومتوافقة مع السياق السياسي العام ودون ارتباط بالضرورة بانتماء ديني أو عقائدي، البعد السياسي الأول للقرار يكمن في أصل تحول المسجد إلى متحف عام 1934، فعلى الرغم من الصبغة العلمانية المتطرفة لعصر تأسيس الجمهورية والحملة على المساجد في عام 1928 والتي تبعت مجموعة من القوانين العلمانية إلا أن سبباً سياسياً آخر كان الدافع الرئيسي خلف فقدان الجامع صفته كدار عبادة، في بداية الثلاثينيات واجهت تركيا تهديداً إيطالياً وبلغارياً مع تنامي الفاشية وزيادة التوترات الناتجة عن الخلافات الحدودية التي خلفتها الحرب العالمية الأولى وكانت مجموعة من دول المنطقة قد بدأت الحوار حول ما سمي لاحقاً حلف البلقان والذي ضم كلاً من يوغسلافيا واليونان ورومانيا وتركيا وهدف إلى تحييد الخلافات بينها والوقوف جبهة واحدة أمام أطماع الدول المحيطة. وحسب الرواية التي نقلها رئيس وزراء تركيا آنذاك جلال بايار فإن رئيس الوزراء اليوناني أخطره بأن تحويل المسجد والذي يعتبره اليونانيون الأورثذوكس كنيستهم الأهم المسلوبة إلى متحف سيمثل بادرة حسن نية ستدفع ببقية الدول المنخرطة في المفاوضات للقبول بانضمام تركيا، وحسب المصدر نفسه عند نقل هذا الأمر إلى مؤسس الجمهورية التركية الحديثة مصطفى كمال أتاتورك استحسن الفكرة خاصة وأن إدارة الأوقاف في حينه أبلغته أنها ليست قادرة على ترميم المبنى وبالتالي اتخذ مجلس الوزراء قراراً بهذا الشأن وتحول المسجد إلى متحف ووقعت اتفاقية حلف البلقان في نفس العام بمشاركة تركية، وبالتالي ومنذ تلك اللحظة كان بقاء هذا المسجد متحفاً رمزاً لعصر الضعف في تركيا والتدخلات الأجنبية. عودة المسجد بالتالي تشكل انعتاقاً من تلك اللحظة التاريخية واستكمالاً لاستقلال تركيا عن التأثير الأوروبي المهيمن، فمنذ نهاية الحرب العالمية الأولى ظلت تركيا والتي نجحت في منع الاحتلال الأوروبي لمعظم أراضيها تحاول الاتجاه غرباً وظل الغرب ينظر لها باعتبارها فرساً ينبغي ترويضه، ولكن الانتقال التدريجي لتركيا باتجاه أن تكون قوة إقليمية قائمة بذاتها في العهد الحالي والتوتر الحاصل مع أوروبا وخاصة بعد المحاولة الانقلابية ورفض الدول الأوروبية قبول استقلالية القرار التركي جعل من إعادة الجامع رسالة سياسية للخارج بأن زمن التبعية التركية للغرب قد ولى. أما على المستوى الداخلي فالبعد السياسي لهذا القرار يكمن في جانبين الأول هو حاجة الرئيس التركي إلى إرسال رسالة بأنه مازال قادراً على اتخاذ قرارات شعبية جريئة تتوافق أكثر مع رغبات قواعده الانتخابية خاصة وأن الجيل الجديد من الأتراك والذي لم يعرف غير أردوغان حاكماً لم يره وهو يقوم بإصلاحاته الكبرى في الشأن التركي بل شهدوه يصارع خصومه بدءًا من قضية أورغانكون وانتهاءً بصراعه مع حلفاء الأمس، ويأتي هذا القرار ليعيد رسم صورة أردوغان كمجدد في تركيا، والأمر الآخر هو أن خسارة الانتخابات البلدية في إسطنبول مثلت ضربة للحزب الحاكم وشعبيته ومن خلال إحداث مثل هذا التغيير الضخم في إسطنبول نفسها يعاد إلى الأذهان أن أردوغان بدأ مسيرته بنجاحه في رئاسة بلدية إسطنبول علماً بأن عهده شهد مما شهد ترميم أيا صوفيا بعد أن تعرضت قبته النحاسية لشرخ هدد كل الآثار في المبنى، وما سيثيره هذا القرار من ضجة إيجابية وسلبية حوله يسحب البساط من محاولة تسويق إمام أوغلو رئيس بلدية إسطنبول المنتمي لحزب الشعب الجمهوري وما يقوم به في المدينة. ردود الأفعال الناقدة لقرار أردوغان من العديد من الحكومات الغربية والشرقية لا يمكن فهمها إلا في سياق رفض أمرين، الأول هو أن تحقق تركيا استقلالاً كاملاً في القرار، والثاني هو المركزية السياسية الإسلامية لتركيا لذلك نجد أن التصريحات لم تأتِ من الدول ذات الأغلبية الأورثذوكسية فحسب بل جاءت من كل من استفاد من التبعية أو الضعف التركي مثل دول الاتحاد الأوروبي والدول العربية الرافضة لمواقف أردوغان الإسلامية والداعمة للتغيير في المنطقة، وسيمثل مشهد الصلاة الأولى التي تتزامن مع ذكرى الانقلاب الفاشل الذي دعمته العديد من الدول المعترضة على القرار اليوم غصة في حلوقهم نسأل الله أن تطول. [email protected]