15 سبتمبر 2025
تسجيليثار هذه السنوات الأخيرة في الأوساط الثقافية والأكاديمية العربية والمسلمة جدل متشعب حول الهوية ومسألة إدراج المرجعية الإسلامية في الدساتير (كما في تونس ومصر وليبيا)، وهي نقاشات تستقي مصادرها عموما من الغرب ومن تاريخ الغرب لا من تاريخ العرب والإسلام، لأن شعوبنا ما تزال ترزح تحت استعمار عقولها بعد التخلص نسبيا من استعمار دولها، فالنخب الحاضرة في المنابر والأحزاب والمنظمات والمنتديات هي التي تخرجت من مدارس الغرب وجامعاته حتى لو كانت في بلدانها الأصلية وأنا عشت نصف العمر في الغرب، ولم يكن ذلك باختياري وامنت أن الله سبحانه يقدر المصائر حسب منطق رباني بل إنه تعالى جعل لي في المحنة منحة، فقيض لي أن أتأمل في مسيرة هذه المجتمعات وفي الأفكار الكبيرة التي تحركها، وأن أقارن بين خياراتها وخيارات مجتمعاتنا العربية، وأعتقد أن هذه التأملات تخلصت من الانحرافات الأيديولوجية والأفكار المسبقة التي تتخبط فيها نخبنا سواء كانت من عبدة الغرب أو من رافضيه وكلاهما على خطأ. والذي ألاحظه هذه الأيام ونحن في منعرج حضاري دقيق هو أن أكبر فلاسفة الغرب ومفكريه أصبحوا أكثر وعيا بأولوية الأخلاق في السياسة والتربية والثقافة حتى ينقذوا ما تبقى من تراث الغرب الأدبي والروحي والفكري. وهذه النزعة نحو (أخلقة) المجتمع بدءا من السياسة والدساتير تحولت الى تيار يحظى باهتمام الجامعات والأحزاب والمجتمع المدني. وأكتفي باستعراض جهود بعض المفكرين من أبرز قادة الرأي في الولايات المتحدة وفرنسا وأدعو قرائي العرب إلى تحليل هذه التيارات الفلسفية التي تقطع مع الاتجاهات التقليدية الغربية نحو ما يسمى (الليبرالية) وهي التي تعني التحررية الاقتصادية واقتصاد السوق ولكن أيضا مقرونا بالتحررية الأخلاقية والجنسية المتطرفة. إن ما وصلت اليه المجتمعات الغربية من (تحررية) تحول إلى أزمات ضمير لدى هؤلاء المنظرين الأمناء الذين يخشون أن تنفجر ثقافة الغرب وتحول المجتمعات الغربية إلى أدغال متوحشة أصبح كل شيء فيها ممكنا. ولنقرأ ما كتبه أكبر فلاسفة أمريكا الملقب بأرسطو هارفارد وهو الأستاذ (ميكايل ساندل) في كتابيه الأخيرين (الذي لا يشترى بالمال) والثاني (عدالة) وهما كتابان ترجما الى لغات عديدة واقتناهما عبر العالم أكثر من عشرة ملايين قارئ وفي الكتابين يناضل الأستاذ ساندل من أجل إعادة النظر في منظومة العلمانية التي أصبحت نوعا من الدين الجديد ويؤكد أن مبادئ العلمانية انحرفت عن إرادة مؤسسيها لأنهم أرادوها حيادية الدولة إزاء الأديان لا حيادية الدولة إزاء الأخلاق. ويدعو المفكر إلى تدخل الدولة لإعادة منظومة القيم العليا التي تؤسس الأمة على جملة من المبادئ والقيم التي تحميها لا أن تكون الدولة هي نفسها المنظمة للانحراف والمشرعنة للتسيب والمبررة للرذيلة تحت شعارات العلمانية وباسم الحريات الشخصية وتحييد السلطات العمومية عن هندسة المجتمع وتقويمه وهب بعض الناقدين يعيبون على (ميكايل ساندل) رفضه للإجهاض المتوحش والزواج بين المثليين بينما التف حوله في هارفارد وفي الولايات المتحدة وفي أوروبا مؤيدون متحمسون مقتنعون بأفكاره. وفي كتاب (عدالة) يدافع الأستاذ عن الأبعاد الحقيقية المغيبة في العدل وينادي بأن تكون الدولة هي الضامنة للعدالة في بعدها الاجتماعي والقضائي والأخلاقي لا أن تكتفي بتطبيق القانون بشكل أعمى وميكانيكي جامد بل أن تحدد الدولة فلسفة القانون لا بنوده فقط وتعمل على إشاعة الفضيلة في المجتمع وهذا هو المعنى العميق الذي يعطيه المفكر للعدالة. أما الفيلسوف الفرنسي (ميشال هونفراي) وهو صاحب أكبر المبيعات لكتبه فقد أطلق صيحات فزع من انهيار القيم الأساسية للغرب التي صنعت نهضته وبوأته منزلة الريادة ودعا أخيرا إلى تغيير عميق في الدبلوماسية الفرنسية حتى تتلاءم مع المنظومة الأخلاقية لفرنسا بحيث لا تكون بلاده عربة تجرها القاطرة الأمريكية والروسية في قصف المدن في أوكرانيا وسوريا والعراق وليبيا واليمن بدعوى مقاومة الإرهاب ثم نتعجب إذا ما استهدفنا الإرهابيون في عقر ديارنا!. هذا المفكر يحظى هنا في بلاده باحترام ويثير جدلا واسعا وهو لا يبتعد عن زميله الأمريكي المذكور في الدفاع عن غرب مختلف بفضل مخزونه الأخلاقي وحفاظه على القيم. ثم ننتقل إلى أبرز علماء الاجتماع الفرنسي (إدغار موران) الذي يعتبر منظر القرن الحادي والعشرين في كتبه العشرين ومداخلاته الاعلامية ومقالاته في صحيفة لوموند فهو الذي أصبح يدافع عن القضية الفلسطينية دفاعا موضوعيا ومستمرا، لأنه يعتبر الظلم المسلط من قبل الحكومات اليمينية الصهيونية على الشعب الفلسطيني السبب الأول لتنامي ظاهرة العنف والإرهاب في المشرق الإسلامي وهو يدعو الغرب للضغط على إسرائيل لتغيير سياساتها الكارثية والانخراط الصادق في مسيرة السلام ثم هو في كتابه (في نسق العالم) يؤكد أن الحضارة الإسلامية عبر التاريخ كانت الأكثر تسامحا وتحاورا بين الأديان وحماية للمسيحيين واليهود المضطهدين في العالم وخاصة في مرحلتي الأندلس المسلمة والخلافة العثمانية بل يؤكد (إدغار موران) على أن الغرب هو الذي أسس التوحش وشن حروب الإبادة في مراحل تاريخية كثيرة منها الحملات الصليبية وفرض الاستعمار بالقوة وإبادة السكان الأصليين لأمريكا وصولا الى حرب فيتنام وفتح محتشد جوانتانامو دون أي تبرير قضائي امريكي أو أممي. أما المفكر الاقتصادي والاستراتيجي الأمريكي (ليندن لاروش) وهو المستشار الأسبق للرئيس رونالد ريجان في الثمانينيات فهو رغم بلوغه التسعين قبل رحيله بأيام ظل متمسكا بأفكاره الداعية للسلام العالمي على أساس العدل السياسي واحترام طبيعة الحضارات الأخرى، وهو يقاوم نظرية صدام الحضارات التي يقول عنها إنها هي المحركة للسياسات الأمريكية والأوروبية منذ ثلث قرن ويدعو إلى تحالف الحضارات لإقامة ما يمكن تسميته بطريق الحرير الجديدة وذلك بتضامن اقتصادي بين القوى العظمى وتنسيق استراتيجي بين موسكو وواشنطن وبكين عوض التهيئة لحرب عالمية ثالثة قد تكون الأخيرة لأن البشرية لن تصمد في جحيم نووي. اليوم وأنا أكتب هذا المقال يجري في أوروبا تغيير في تركيبتها السياسية بوصول بعض الأحزاب اليمينية العنصرية إلى الحكم ومهما كانت النتيجة فإن أقوى أركان الحضارة الغربية سيظل مهددا بالانهيار والسبب الأساسي هو تصدع المجتمع الأوروبي الفاقد تدريجيا لقيم الأخلاق في التعاطي مع معضلات العصر، ولدينا في مجتمعاتنا العربية المسلمة من ينحاز لهذه الانحرافات لأنها جاءت من الغرب وهم من عبدة الغرب وسبق أن حذرهم العالم الأمين (إدغار موران) حين نصحهم بعدم استيراد كل ما في الغرب لأن هؤلاء أيتام الحضارة سوف يستوردون أيضا معضلات الغرب وأزماته كما نبه الغافلين من أبناء جلدتنا إلى أن اعتماد حداثة الغير للتقدم أمر مستحيل، لأنه لا نهضة لأمة إلا باعتماد أمجادها وقيمها وجذورها. لكنهم لا يسمعون ولا يفقهون وعلى قلوب أقفالها.