16 سبتمبر 2025
تسجيلنقرأ في أدبيات الإعلام الدولي و العربي هذه الأيام تحليلات لا تخلو من عمق ولا تعوزها الحصافة حول تداعيات الثورات العربية على دول الخليج العربي ومدى تأثر المجتمعات الخليجية بما يحدث هنا أو هناك. و لعلي شخصيا بسبب معايشتي الطويلة لواقع الخليج وارتباطي المديد بناسه وقضاياهم أدرك أفضل من سواي ما عساه يحرك التاريخ في هذه المجتمعات الكريمة الطيبة الأصيلة لا لأني أذكى أو أعقل من غيري-حاشا لله- و لكن بفضل تواجدي الفكري والاجتماعي في الخليج على مدى حوالي عشرين سنة من سنوات العمر. وسألفت أنظار قرائي الكرام إلى حقيقة غابت عن المراقبين والخبراء العرب و غير العرب حول هذا المحور وهي أن للخليج فضلا عظيما على انضاج الطموحات المشروعة للحريات في باقي المجتمعات العربية. وهذه حقيقة موضوعية أكاديمية لا يتطرق إليها الشك. فالإعلام الخليجي كان سباقا لفتح البصائر والأبصار حين كانت أغلب أجهزة الإعلام العربي أدوات دعاية و تسويق للأنظمة و للزعماء لا للشعوب. و هنا لابد من ذكر أقدم مجلة خليجية راقية عرفت الرأي العام العربي بحقائق الصراع بين الإسلام وأعدائه وبين العنصرية الصهيونية والحق الفلسطيني ألا وهي مجلة "العربي" الكويتية و رائدها المفكر العربي د.أحمد زكي رحمه الله. فقد تحولت المجلة من بيئتها الكويتية و الخليجية إلى سفيرة عربية متنقلة فارضة رؤية جريئة للواقع العربي وعارضة قراءة طريفة لأمجاد العرب ومحركة المياه الراكدة في عالم عربي لم يخرج بعد من ربقة الاستخراب الفكري والثقافي، و كانت "العربي" بورقها الصقيل و ألوانها الزاهية و عمق تقاريرها أداة تحرير عربي من الطراز الأول. ثم التحقت بها مجلة "الدوحة" فانتشرت بسرعة قياسية لدى القراء العرب بأسعارها الرمزية و موادها الدسمة و مقالات الكاتب السوداني العبقري الطيب صالح طيب الله ثراه. و في السبعينات أسس الخليج في أوروبا و العالم الغربي صحفا قوية مثل " الشرق الأوسط" ثم أعاد الروح لصحيفة " الحياة" انطلاقا من لندن واجتمعت على صفحات هاتين اليوميتين الرائدتين أقلام متميزة كان أغلبها مقموعا في أوطانها العربية الأصلية و تفتحت على أعمدتها أزهار الحرية الفكرية و السياسية فتلقفتها أيادي القراء والنخبة لتعيد صياغة الثقافة السياسية والإبداعية العربية على أسس الحرية. ثم جاء عصر الفضائيات فكانت قناة " الجزيرة" من قطر فتحا لا إعلاميا فحسب بل فتحا حضاريا و أطلت من شاشتها وجوه كانت من قبل مطموسة في بلدانها لتنادي منذ 1996 بهبوب رياح الحريات و إرادة الشعوب. و للحق فإن سقف الحريات كان أيضا مرتفعا في عديد الفضائيات الخليجية الأخرى مما أصاب القنوات بالعدوى المباركة فسرت روح المبادرة في البرامج الحوارية و تنافس المتنافسون في نقاشات أثرت الرأي العام العربي بل صنعته صنعا حيث غاب أو بدلت مساراته و تلاعبت به الأيادي. هذا في الإعلام أما في مجال نشر الكتب و توزيعها فقد كان الخليج رائدا بمعارض الكتاب العربي أو الدولي في كل عواصمه بدون استثناء وتسابقت الأقلام العربية تكتب و تنشر بل وتهاجر إلى دول الخليج بحثا عن التعبير الحر والرزق الحلال. أما الإسهام الخليجي الأكبر في إنضاج الطموحات وتحرير الفكر فبدأ في الخمسينات وتواصل في الستينات و ما بعدها وهو احتضان عواصم و مدن الخليج لنخبة عربية مضطهدة من قبل حكامها من أجل مبادئها وخياراتها أمثال الإخوان المسلمين الذين نجوا بجلودهم وعيالهم من قمع تعرضوا له في مصر والشام فوجدوا في جدة والدوحة ومسقط وأبو ظبي الصدور الدافئة الحانية فعاشوا أمنين و ساهموا في التعليم و نشر العلم و القيم في مجتمعات الخليج. وكتب الله لي أن أكون أحد هؤلاء منذ بداية التسعينات حيث أوتني قطر العزيزة و وفرت لي و لأسرتي الملاذ الأمين لسنوات طويلة كنت خلالها ملاحقا من قبل إنتربول ظلما و كيدا كغيري من آلاف التوانسة و العرب ووجدت في الدوحة واحة خير وأمن ورزق وتعبير جزى الله أميرها ونخبتها وأهلها كل خير. هذه بعض مساهمات الخليج فيما نشهده اليوم من استعادة كرامة المواطن و الأوطان ودعاؤنا من القلوب أن يسلم الخليج و الخليجيون من الزلل و أن يحفظ أراضيه من أيادي الشر إنه السميع المجيب.