16 سبتمبر 2025
تسجيللبنان العربي الجميل هو حقاً فسيفساء، تتمازج فيها ألوان متنوعة شتى، لكن الكارثة تقع إذا جرت محاولات لإلغاء لون ما، أو لإزاحة قطعة من القطع التي تتشكل منها هذه الفسيفساء.. ولبنان - جغرافياً – يشبه امرأة مستلقية على شاطئ البحر، وهذا الوصف ليس من عندي، وإنما هو وصف «موسوعة السياسة» التي أسسها الكاتب الشهيد الدكتور عبدالوهاب الكيالي. أما لبنان – إنسانياً – فإنه يضم أعراقاً متعددة، كما يضم ديانات ومذاهب مختلفة، لكن يتحتم عليها – مجتمعة – أن تتعايش وتتواصل فيما بينها، وإلا وقعت الكارثة.ما أقوله عن لبنان العربي الجميل ليس جديداً، فضلاً عن أن جميع اللبنانيين ممن يتحلون بالإحساس بالمسؤولية تجاه الوطن يعرفونه بصورة دقيقة، وقد نبه جبران خليل جبران – الكاتب المهجري اللبناني الكبير الذي أحببته منذ صباي الباكر - كل أبناء لبنان إلى ضرورة التعايش فيما بينهم، وقبل أن يرحل عن عالمنا في ربيع سنة 1931، كان قد كتب مقالاً أدبياً بديعاً، بعنوان «لكم لبنانكم ولي لبناني» وبين حين وآخر فإني أعود إلى قراءة هذا المقال البديع الذي يقول فيه جبران: لكم لبنانكم ولي لبناني، لكم لبنانكم ومعضلاته، ولي لبناني الجميل بكل ما فيه من الأحلام والأماني.. لبنانكم عقدة سياسية تحاول حلها الأيام، أما لبناني فتلول تتعالى بهيبة وجلال نحو ازرقاق السماء.. لبنانكم مشكلة دولية تتقاذفها الليالي، أما لبناني فأودية هادئة سحرية تتماوج في جنباتها رنات الأجراس وأغاني السواقي.. لبنانكم مربعات شطرنج بين رئيس ديني وقائد جيش، أما لبناني فمعبد أدخله بالروح.. لبنانكم رجلان: رجل يؤدي المكوس ورجل يقبضها، أما لبناني فرجل فرد متكئ على ساعده في ظلال الأرز، وهو منصرف عن كل شيء سوى الله ونور الشمس.كتب جبران خليل جبران مجموعة من الكتب النثرية الرائعة، بعضها كتبه بلغتنا العربية الجليلة والجميلة، وبعض آخر منها كتبه باللغة الإنجليزية، ولعل أشهر كتبه التي كتبها بالإنجليزية أن يكون كتاب النبي الذي تمت ترجمته بعد صدوره إلى الكثير من اللغات العالمية، وقد ترجمه إلى العربية الكاتب الفنان الكبير الدكتور ثروت عكاشة، لكن لجبران ديوانا شعريا وحيدا بعنوان المواكب، وتغني فيروز من هذا الديوان القصيدة التي اشتهرت بعنوان اعطني الناي وغن، ومن القصائد التي أحبها في هذا الديوان قصيدة يصور فيها جبران معاناة الإنسان المرهف الذي يبحث عن عالم مثالي جميل، ليكون ملاذاً له مما يلاقيه من متاعب في عالم الواقع المضطرب، لكن جبران يتوصل في خاتمة قصيدته إلى أن هذا العالم المثالي الجميل لا وجود له إلا في الخيال وحده. هكذا تبدأ القصيدة برغبة الشاعر في الفرار من وطأة ما يعانيه:هو ذا الفجر فقومي ننصرفْعن ديارٍ ما لنا فيها صديقما عسى يرجو نباتٌ يختلفزهرُه عن كل وردٍ وشقيقوجديد القلب أنَّى يأتلفمَعْ قلوب كل ما فيها عتيقويظل جبران على امتداد أبيات قصيدته الجميلة والحزينة يحاول البحث عن الأرض التي يفر إليها، حتى ينقذ روحه المتعطشة إلى الجمال والخير والحق، لكنه يتأكد ويؤكد لنا في النهاية أن هذه الأرض ليست موجودة إلا في الأرواح:لستِ في الشرق ولا الغرب ولافي جنوب الأرض أو نحو الشماللستِ في الجو ولا تحت البحارلستِ في السهل ولا الوعر الحرجأنتِ في الأرواح أنوار ونارأنتِ في صدري فؤاد يختلجكان جبران يعرف جيدا أن وطنه الجميل لبنان هو فسيفساء، وأن على جميع اللبنانيين أن يتعايشوا متصالحين مع أنفسهم ومع سواهم، وإلا وقعت الكارثة، وفي تصوري أن لبنان مرآة مجلوة، تنعكس على صفحتها صور التآخي والمحبة بيننا - نحن العرب - حين نكون أحبابا محبوبين، كما تنعكس عليها أزماتنا ومصائبنا حين تتحكم فينا البغضاء التي لا يستفيد منها سوى الأعداء.