15 سبتمبر 2025
تسجيلانعقدت خلال السنة الماضية (الاستثنائية والعجيبة 2011) ندوات عديدة في كل من تونس ومصر وليبيا وعواصم أوروبا حول (الديمقراطية والتنمية والهوية) وأجاب فيها الخبراء والسياسيون عن سؤال محوري وقع تجاهله أو تغييبه على مدى عقود وهو: هل يمكن أن تنهض اقتصادات الشعوب ويتطور مؤشر نموها دون إقرار الحريات واحترام حقوق الإنسان أي دون الديمقراطية والحكم الصالح؟ وكانت الإجابات واحدة حيث أكد علماء السياسة والاقتصاد أنه لا تنمية عادلة متوازنة ودائمة من دون ديمقراطية ترتكز على مؤسسات دستورية فاعلة وعلى مسؤوليات أخلاقية وقانونية تصونها. ولعل التجربة التاريخية التي كثر الاستشهاد بها هي التجربة الأوروبية حين تضافرت جهود الأوروبيين منذ 1970 للقضاء على ثلاثة أنظمة استبدادية كانت تشكل جزرا دكتاتورية في بحر ديمقراطي أوروبي لفظها وضج بها وهي أنظمة الجنرال فرانكو في إسبانيا والدكتاتور سالازار في البرتغال وحكم العقداء العسكر في اليونان. وحين انتشر الربيع الأوروبي وسقطت هذه الأنظمة المستبدة تحولت إسبانيا والبرتغال واليونان إلى دول ديمقراطية حققت نسبا من النمو تضاهي نسب فرنسا وبريطانيا وألمانيا وبلجيكا بل انتقلت من بلدان مصدرة للعمالة إلى دول جالبة للعمالة. وكانت تلك الظاهرة مؤشرا حيا على الترابط الجدلي بين الاقتصاد والسياسة كما أنها سرعت مسيرة الوحدة الأوروبية. إن إشكالية العلاقة بين التنمية والديمقراطية تحتاج بالفعل إلى تضافر الجهود لتحليلها وتحيينها من أجل تجسيد مقولة التقدم السريع والملاءمة بين مخرجات التعليم ومدخلات سوق الشغل والتجاوب مع مطالب الإصلاح التي عبرت عنها الجماهير العربية مع العلم بأن لا نمو ولا تقدم بلا هوية أصيلة تحمي التقدم من الانسلاخ عن الذات. وهذه المبادئ ليست وليدة اليوم بل إن القرآن كرسها بالزكاة والتكافل والعدالة ونكران الذات وتوحيد الأمة كما أن العلامة ابن خلدون وضع لها أسسا في العمران البشري وأضاف المصلحون المسلمون لبناتهم في القرن التاسع عشر أمثال الأفغاني وعبده والطهطاوي والوزير خير الدين وابن أبي الضياف. وتعمق في الفكر السياسي بعدهم عبدالرحمن الكواكبي في طبائع الاستبداد منذ أكثر من قرن. ولو أجاب العرب على أسئلة هؤلاء في إبانها لما ظللنا نراوح مكاننا من التخلف في حين تقدمت الأمم الأخرى. وتكفي الإشارة إلى أن العرب واليابانيين انطلقوا في نهضتهم تقريبا في نفس العشرية من القرن التاسع عشر نحن مع ثورة محمد علي في مصر وهم مع أسرة المايجي لكن انظروا أين نحن وأين هم اليوم! والسر هو أن اليابان دخلت العصر بأدواتها الأصيلة من حضارة ولغة ودين وتراث بينما استوردنا نحن أدوات نهضتنا من الغرب. فنجحوا وفشلنا إلى أن جاءت مستحقات الربيع العربي تعيد النظر في آليات النهضة وأدواتها. إن هذه القضية هي الأساس لكل بناء نخطط له وهي قضية عربية إسلامية والسؤال هو: هل يمكن أن نرسي قواعد تنمية سياسية واقتصادية وثقافية وتكنولوجية مستديمة متكاملة دون تفعيل آلية المشاركة الشعبية الواسعة والاعتراف بالرأي المخالف ودون أن تقر مجتمعاتنا قنوات دستورية لهذا الحوار وهي قنوات مؤسسية تقي الحوار من أن يتحول إلى صراع من أجل السلطة الزائلة والغلبة العاجلة. وهنا لا بد من أن نهتدي إلى أقوم المسالك للتوفيق بين حفاظنا على قيمنا العربية الإسلامية وبين الاندماج في روح العصر بقيمه الكونية التي تتجاوز الحدود؟ في آخر خطاب للرئيس الصيني (هو جين تاو) أمام مؤتمر حزبه الحاكم نادى شعبه برفض هيمنة الثقافة الغربية على الصين (صحيفة لوفيجارو الباريسية يوم الأربعاء 4/1/2012) ودعا النخبة الصينية إلى ربط التفوق الاقتصادي الصيني بالتشبث بالهوية الصينية وحذر الغرب من مغبة الهيمنة الفكرية بالأنماط المستوردة على عقول الصينيين! وأنا أسوق هذا المثل الرائع للقراء العرب حتى يدركوا استعجالية الربط بين النمو والهوية، لأنه لا نمو حقيقيا بعقول مستوردة أو مغسولة. فللأمم مسارات حضارية تشبه الهندسة الجينية لا بد أن نراعيها لسن سياسات تنموية بإعادة النظر في التربية والتعليم والثقافة وإحياء لغة الشعب والحفاظ على مقوماته الإسلامية بروح الانفتاح وحوار الحضارات لا في كنف تعصب ضيق قاتل. هنا تكمن المشكلة وهنا يكون الحل.