19 سبتمبر 2025

تسجيل

تراجع دور المثقف في قضايا الأمة بماذا نبرره؟

12 أكتوبر 2014

بدأت في السنوات الأخيرة الكثير من الكتابات والدراسات الجادة منها والمتعسفة، تنقد دور المثقف العربي وواقعه ونظرته إلى الفكر والسياسة والثقافة والمجتمع، وتنعته بالكثير من الصفات السلبية، أقلها أنه يعيش في أزمة حقيقية، وقد صور أحياناً في هذا النقد بأنه إما منعزل عن قضايا الأمة ومشكلاتها وإما متعالٍ عليها، وصور أيضاً بأنه يعيش أوهاماً عديدة في برجه العاجي، ويطرح الأفكار غير الواقعية على المجتمع من خلال يوتوبيا حالمة لا صلة لها بالواقع المعاش وتحولاته، حتى أن بعضهم تحدث ما أسماه بـ"نهاية المثقف" تعبيراً عن انتهاء دوره وغياب تأثيره وانقطاع صلته بالثقافة التي عرف من خلالها المثقفون وإبداعهم.ومن القضايا التي أسهمت في أزمة المثقف العربي وانقسام المثقفين أنفسهم مسألة التطبيع الثقافي مع الكيان الصهيوني جعل البعض منهم يندفع بخلفيات أيديولوجية تحت شعار ثقافة السلام الجديدة التي ستساهم في خلخلة جدار العداء والصراع قبل السلام العادل المرتقب، فمع انتهاء كارثة حرب الخليج الثانية وتداعياتها السلبية على النظام العربي ومشروعه القومي وتدشين ما سمي بالنظام العالمي الجديد ظهرت العديد من الدعوات الأوروبية والإسرائيلية في ظل انتهاء الحرب الباردة تطرح بقوة ضرورة إقامة مشروع التطبيع الثقافي بين العالم العربي والكيان الصهيوني، وإشاعة ثقافة السلام في الأجيال الجديدة من خلال القنوات العديدة، وجعلها نظرة مستقبلية بعيدة المدى لتقليل ردود أفعالها وتأثيراتها السلبية ثقافياً على اعتبار أن مشروع السلام الذي يتحدثون عنه الآن ـ وفي المستقبل ـ في المنطقة ليس مشروعاً سياسياً أو اقتصادياً فحسب، لكنه مشروع ثقافي وحضاري بالدرجة الأولى، والمشروع الثقافي والحضاري فيه أقوى تأثيراً وأثراً وأصلب عوداً من المشاريع الأخرى الظاهرة للعيان، وهذا لا يتأتى ـ كما يرونه ـ إلا من خلال التغلغل في جسد الأمة الثقافي، والعمل المخطط على استمالة المثقفين وأنصاف المثقفين على لعب هذا الدور الجديد والهام، وهو تسويغ مشاريع التطبيع الثقافي مع هذا الكيان، وإشاعة ما سمي بثقافة السلام ونبذ ثقافة العنف والإرهاب في المجتمعات العربية.وقد طرح الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز في كتابه الشهير "الشرق الأوسط الجديد" هذه القضية في بعديها الثقافي والاقتصادي، وساق في هذا الكتاب الكثير من الأحلام الوردية والأفكار الفردوسية، ما يتجاوز الخيال من النعيم الجديد الذي ينتظر من هذا التطبيع، والفرص التنموية والثقافية العديدة التي ستحل بدل الحروب والصراعات والكراهية والخسائر البشرية بين العرب وإسرائيل. ويعرف شيمون بيريز الرئيس الإسرائيلي الحالي: إن الصراع العربي الإسرائيلي ليس صراعاً عسكرياً فحسب، بل هو صراع ثقافي وفكري وأيديولوجي أيضاً، وما يجره من استتباع حضاري في جوهره يتم التخطيط له من خلال التطبيع الاقتصادي والثقافي وترسيخ نوع معين من القيم وغزو العقل، وتكييف المنطق وقولبة السلوك، وعبر العديد من الوسائل التي صنعها الاستعمار لتثبيت احتلاله، ومنها فرض نمط معين من الاستهلاك مناف للثقافة السائدة عند الشعوب، وهذا ما طرحه بيريز في هذا الكتاب. والمخاطر الكامنة في هذا المشروع الأيديولوجي الثقافي هي إلغاء الثوابت المستقرة وتقويض الذاكرة التاريخية التي عجزت جيوش الاستعمار وبعد ذلك الكيان الصهيوني عن تقويضها خلال عدة قرون، والسعي إلى صنع خريطة جغراسياسية جديدة في الشرق الأوسط، تدار من مراكز صناعة القرار في الغرب وقاعدتها إسرائيل باعتبارها الحارس الأمين على أفكاره ومنطلقاته في مسارات عديدة ومبرمجة هدفها تحطيم الحواجز وإدخال إسرائيل إلى المنطقة قائدة وراسمة للنموذج الثقافي الجديد.وللأسف أن بعض المثقفين صدق هذه المقولات في ظاهرها، وسايرها باندفاع غريب، وأصبح بعضهم مدافعاً عن هذا التوجه وأنه الطريق الصحيح لقيام مرحلة جديدة بيننا وبين الكيان الإسرائيلي يسودها السلام والعدل ونبذ الكراهية، متجاوزاً بذلك الحقائق الثابتة للقمع الإسرائيلي اليومي على الشعب العربي الفلسطيني، ناهيك عن احتلاله وانتهاكاته التي لم تتغير حتى يومنا هذا، صحيح أن الثقافة ليست كياناً مغلقاً على نفسه، بل هي عملية ديناميكية مفتوحة على الخيارات المجتمعية تتفاعل وتتجاوب مع المتغيرات وتقبل الاختلاف والتعدد، لكن في حدود وفي صميم قضايا الأمة التي لا مساومة عليها. وهذا حدث في أعرق الديمقراطيات الغربية وتجاوب الشريحة المثقفة في الغرب مع ظروف أزمة وتداعيات تفجيرات نيويورك وواشنطن في سبتمبر المنصرم، إذ رفضت كل المحطات الفضائية الغربية إذاعة بيانات أسامة بن لادن، بحسبانها تمس الأمن القومي الأمريكي والغربي وهكذا كان.فلماذا مثقفونا العرب يتقاطعون مع قضايا الأمة ويتجاوزن خطوطها الحمراء في التطبيع الثقافي مع إسرائيل، والترويج لثقافة السلام الوهمية، والذي نعرفه في تاريخ أمتنا الثقافي أن المثقفين العرب منذ القرن التاسع عشر حملوا لواء التجديد والإحياء والدعوة إلى الإصلاح السياسي والثقافي، وشحذ الهمم لطرد المستعمر البغيض، وكنتيجة لهذا المناخ الصحي والمبدئي، وتجاوباً مع دعوات المثقفين العرب، قامت النخب السياسية بنشاطات عدة بهدف تحريك وعي الأمة، وفك عزلتها الفكرية والسياسية لمواجهة الأخطار المحدقة. وكان المثقف العربي في صدارة هذه الفعاليات، بل هو المحرك الأساسي لها، باعتباره الأنموذج الأكثر وعياً من بين هذه النخب الفاعلة، فالمثقف الحقيقي في علاقته بمجتمعه يجب أن تكون ريادية، وهو الذي تتفتق منه الرؤى والأفكار النيّرة لإنارة الطريق القويم للأمة ومدركاتها المختلفة.وإن أكثر الباحثين والمهتمين في الشأن السياسي منذ عقود عدة، يجدون صعوبة كبيرة للتفريق بين وضع حدود السياسي والثقافي العربي منذ النصف الأول من القرن العشرين، بل إن السياسي يستمد حيويته وشهرته من أطروحات الثقافي في قضايا الأمة ومصائرها. ذلك أن المنظومة الاجتماعية كانت تعمل بشكل صحي، فالسياسي يستمد من المفكر والمثقف، والمفكر والمثقف متماه مع السياسي، مؤثراً فيه غير متأثر.وقد وجد المثقف العربي ـ غالبية شرائحه ـ ذاته في هذا المسار وبلور وجوده ورؤاه كفاعل اجتماعي مهم، قبل أن يوجد النظام السياسي العربي في مرحلة ما بعد الاستعمار، وعندما بدأت النظم والكيانات السياسية والوطنية في التشّكل، وتتعاطى مع قضايا الوطن وهمومه ـ بغض النظر والإصابة والخطأ ـ كان المثقف العربي الوجه المعلن لهذه المعطيات الوسيط المقبول بين الطرفين، السلطة الناشئة والمجتمع، وحجر الزاوية في بنيتها الوطنية والقومية.لكن الذي نلاحظه هو العكس تماماً، فقد أصبح المثقف العربي هو التابع للسياسي العربي، وأصبحت الثقافة في عالمنا العربي تابعة للسياسة في منطلقاتها، وقابعة في منطقة ردة الفعل، أو هي على الأرجح صدى للصوت السياسي ويفترض كما قلنا آنفاً إن الوظيفة الأساسية هي حاملة مشروع مستقبلي للأمة والحامل لهمومها، الباحث عن أفضل أسلوب للحياة الاجتماعية وغيرها من المحددات، فالذي يفعله السياسي الآن ليس بالضرورة يتناسب ودور المثقف الذي يعد خط الدفاع الأخير للأمة في حاضرها ومستقبلها.