08 نوفمبر 2025
تسجيلحين أصدر شاعر الحب الرقيق الدكتور إبراهيم ناجي ديوانه الأول وراء الغمام سنة 1934 كتب عنه الدكتور طه حسين مقالا قاسيا، وكان مما حاسبه عليه وأنكره عليه بشدة أن الشاعر قد صور الحنين وجسده في هيئة طفل، لكن هذه الصورة التي أنكرها طه حسين قد فتنت كثيرين من رواد حركة الشعر الحر فيما بعد. يقول ناجي في قصيدة الحنين: ويحَ الحنين وما يجرعني مِن مُره ويبيت يسقيني ربيته طفلاً بذلتُ له ما شاء من خفضٍ ومن لينِ فاليوم لما اشتد ساعده وربا كنوار البساتينِ لم يرض غير شبيبتي ودمي زادا يعيش به ويفنيني والحقيقة أن رواد الشعر الحر الذين أعجبتهم قصيدة ناجي أخذوا يسيرون على طريقه، ويرسمون صورة الطفل باعتباره رمزا للحب في أحيان كثيرة، كما أصبح آخرون منهم يرمزون به في أحيان أخرى إلى الحزن، ومنهم من أصبحوا يرمزون به إلى الفرح وإلى توق الإنسان إلى استكشاف أعماق المجهول، وكانت الشاعرة الكبيرة نازك الملائكة أول هؤلاء الشعراء الرواد، حيث رسمت صورة الحب الذي يتجسد طفلا في قصيدتها الخيط المشدود في شجرة السرو التي يتضمنها ديوانها الثاني شظايا ورماد، وقد أعادت نازك الملائكة رسم هذه الصورة بشكل فني ناضج في قصيدتها ثلاث أغنيات للحزن التي يتضمنها ديوانها الثالث قرارة الموجة، وفيها تقول: افسحوا الدرب له، للقادم الصافي الشعور للغلام المرهف السابح في بحر أريج ذي الجبين الأبيض السارق أسرار الثلوج إنه جاء إلينا عابرا خصب المرور إنه أهدأ من ماء الغدير فاحذروا أن تجرحوه بالضجيج وبعد نازك الملائكة، رسم صلاح عبد الصبور هذه الصورة أيضا، لكنه عبر بها عن الحب المفقود، ومن يتتبع عطاءه الشعري الرائع يجد أنه قد رسم هذه الصورة مرتين، أولاهما في قصيدته طفل التي يتضمنها ديوانه الأول الناس في بلادي الصادر سنة 1957، والمرة الثانية في قصيدته العائد التي يتضمنها ديوانه الثاني أقول لكم الصادر سنة 1961وفيها يقول: كان طفلا عندما فر عن البيت وولّى من سنين عشرة، ذات مساء، كان طفلا وافتقدناه، وناديناه في أحلامنا وانتظرنا خطوه المخضر في كل ربيع وشكونا جرحه خلاننا وتسلينا بكأس مرة من يأسنا وتناسيناه إلا رعدة تجتاحنا أول أيام الربيع عندما نشعر بالشوق إلى طفل وديع وهنا ينبثق سؤال: لماذا أعجب الشعراء الذين جاءوا بعد ناجي بقصيدته التي لم تعجب عميد الأدب العربي، بل إنه هاجمها هجوما قاسيا؟... أتصور أن الإجابة التي تحتمل الخطأ أو الصواب تتمثل في أن الأذواق العامة قد تتغير من جيل إلى سواه، وهذا ما نلمسه في التغيرات المادية والحياتية، وما يستحدثه الأدباء والفنانون من مذاهب واتجاهات جديدة، يتقبلها من يتقبلها، بينما يرفضها الرافضون الذين يحاولون أن يجمدوا الحياة عند الحدود التي عرفوها وألفوها، ولا يريدون أن يخرجوا عليها أوأن يحيدوا عنها، وهكذا أحب رواد الشعر الحر ما لم يرض عنه طه حسين.