15 سبتمبر 2025
تسجيلأتذكر حين انتهت الحرب الأهلية في إحدى دول إفريقيا أواسط التسعينيات وانتصر أحد رؤساء القبائل على خصمه وأعلن نفسه رئيسا منذ حوالي 25 عاما ودخل عاصمة بلاده مؤيدا ببعض القبائل داخليا وبعض القوى الاستعمارية خارجيا كتبت أنا في نفس هذا الركن على أعمدة الشرق الغراء مقالا بعنوان (بالروح والدم نفديك يا زعيم) وقلت بالحرف ان الطاغية الجديد جاء لانقاذ وطنه من الطاغية القديم في انتظار من يأتي لانقاذ نفس الوطن من الرئيس الحالي وهكذا دواليك ! و في عالمنا العربي تأثرت في طفولتي بأخبار العراق حينما انقلب عبد الكريم قاسم على آخر ملك هاشمي هو المرحوم فيصل وأعدمه وسحله في شوارع بغداد ثم بعد 4 سنوات جاء انقلاب عبد الرحمن عارف فأطاح بالطاغية الأحمر عبد الكريم قاسم (لأن قاسم استعان بالشيوعيين) وسحله مع وزرائه في نفس شوارع بغداد ونجا بحياته صديق تونس الرجل الفاضل محمد فاضل الجمالي بفضل إصرار الزعيم بورقيبة على إطلاق سراحه وأصبح الرجل صديقي وطالما حدثني بلسان خبير عن الهنات والزلات التي تقع فيها النخب العربية رحمة الله عليه واستنتجت منذ مراهقتي ان كل من يدرس التاريخ يعرف ان نفس الأسباب تؤدي إلى نفس النتائج وان غياب دولة القانون والمؤسسات والوفاق الوطني لابد ساقطة في نفس الظروف والملابسات. ومسكينة افريقيا تلك القارة التي أراد محرروها قارة ديمقراطية وموحدة ورحلوا عنها منذ خمسين عاما ليتسلمها بعض الضباط المتناحرين (المنقذين). فأين افريقيا من أحلام داعبت خواطر (نلسون مانديلا) بطل السلام و(باتريس لومومبا) بطل الكنغو الذي مات مقتولا على أيدي الدموي (موسى تشومبي)؟ وأين (أحمد سيكوتوري) بطل غينيا الذي وقف وحيدا في وجه الاستعمار الجديد ومات في ظروف غامضة أليمة؟ وأين (كوامي نكروما) زعيم غانا وأين وأين.. أولئك الذين أسسوا منظمة الوحدة الافريقية لانجاز وحدة القارة السمراء ثم تحولت إلى جهاز إداري بارد ثقيل لا روح فيه كما أجهض حلم مؤسسي جامعة الدول العربية واليوم تعيش عديد الشعوب الإفريقية فواجع الحرب الأهلية والتهجير نفس سيناريو عام 1997. إنها لعبة مأساوية تتكرر منذ الستينات وفي انتظار حلها تغرق افريقيا في المجاعات والهجرات الجماعية وتفاقم الايدز والمالاريا وضياع الثروات المنهوبة وتناحر زعماء القبائل واستغلال الشركات الغربية لهذه الأوضاع لتسرق وتسلب وتتدخل في نوع جديد غير مسبوق من الاستعباد... دون بواخر الرقيق! وما وقع في البلقان من إبادة جماعية للمسلمين ذكرني بشهادة الفنان الكوسوفي (إدريس بريشة) التي نشرتها الصحف الفرنسية وهو القادم الى فرنسا لاجئا مثلي هو من حرب الابادة بكوسوفو وأنا من قمع الاستبداد عام 1986. وإدريس المسلم كان يدرس في معهد اللوفر في باريس ثم عاد إلى وطنه وأنشأ معرضا للرسم إلى أن شاهد الأهوال خلال شهري يوليو وأغسطس 1994. لقد فقد إدريس كل شيء يوم هجم المجرمون الصرب على مدينة (دبروفدا) في منطقة (درينتشا) يوم الثاني من أغسطس وعند انهيار المقاومة المسلحة المسلمة دخل الهمج العنصريون الصرب وأحرقوا كل بيوت (دبروفدا) وأضرموا النار كذلك في بساتينها وقتلوا كل من وجدوه. يقول إدريس: قبل هجوم الصرب بساعات ثلاثة شحنت عائلتي وأولادي على جرار زراعي وقلت لولدي الأكبر: (توكل على الله سبحانه وقد الجرار بعيدا نحو مدينة (السيني) القريبة من الحدود مع ألبانيا ودعني هنا) وفعلا حمل الولد أمه واخوته وهجر ؟؟؟ والنار تتصاعد منها لهبا وهرب إدريس إلى أن ابتعد الصرب المتوحشون عن مدينة (دبروفدا) خرج إدريس من مخبئه وظل هائما على وجهه حتى بلغ البانيا ثم ايطاليا ثم فرنسا حيث كان طالبا... وهو لا يعلم أين استقرت أسرته وهل أولاده أحياء أم أموات إلى أن انتهت الحرب وعثر على أسرته..لم تكن في ذلك التاريخ إتصالات اليوم ولا إنترنت ولا موبايلات. هذه المأساة ليست أفدح ولا أكبر من آلاف المآسي التي عاشها شعب مسلم كريم تربطنا وإياه وشائج الصلوات الخمسة والشهادتين! هذه المأساة ليست فريدة أو منعزلة عما عاناه شعب كوسوفو المسلم على مرأى ومسمع من أوروبا الديمقراطية بل على مرأى ومسمع من العالم الإسلامي. ونتذكر ان الحلف الأطلسي لم ينتظر ان تنهار مجتمعات ما كان يعرف بجمهورية يوغسلافيا وهي في قلب أوروبا بل تدخل الرئيس كلينتون عسكريا وقلب الموازين الجائرة ورفض أن تتحول القضية إلى مسألة إنسانية لتتدخل بالخيام والبطاطين وكراتين الحليب والذرة وقرر كلينتون ان يتعامل مع قضية حق ذات أصول سياسية وعقائدية يتقابل فيها الجلاد الصربي الأرثوذكسي مع الضحية الألباني المسلم صاحب الحق. انها لعبة قذرة تتواصل في بقاع أخرى من العالم مثل فلسطين وقد تغول فيها المحتل الاسرائيلي أخيرا و قتل 41 فلسطينيا منهم 10 أطفال و7 نساء وكذلك كشمير وبورما والشيشان والأيغور وتصلنا أخبارها مهما كانت المسافة الفاصلة بيننا و بينها لان الوشائج الإسلامية الحميمة تربطنا مع هذه الشعوب الشهيدة !.