14 سبتمبر 2025
تسجيلبعد أن تولى طالوت ملك بني إسرائيل بأمر إلهي بفترة وجيزة، وبرغم اعتراضهم على ملكه ومجادلتهم نبيهم في ذلك، وصلت إليه أخبار مزعجة جداً وهي أن أعداءهم العماليق يجهزون جيشهم لغزو بني إسرائيل، ولكن طالوت تمكن في فترة وجيزة من احتواء الأزمة وامتصاص الصدمة ثم بدأ بالعمل الشاق والجاد في تجهيز جيشه ليتصدى للعدو. وفي براعة قيادية قل نظيرها استطاع طالوت أن يجمع حوله الرجال وأن يجهز جيشاً جراراً تعداده ثمانون ألف مقاتل، ولكون الظرف الذي تمر به دولة بني إسرائيل دقيقاً وحساساً، قرر طالوت ذلك الملك الحازم الخروج لملاقاة العدو في أرض المعركة عوضاً عن التحصن في مدينته كالخائف أو المتردد مثلما كان يرغب غالبية جيشه. فزحف بجيشه المتردد في الحر الشديد باتجاه العدو المرعب جالوت وبرغم التوجس من الحرب ووطأة الظمأ الشديد كان طالوت لا ينفك يذكر رجاله بالله ويحمسهم ويشجعهم على الصبر حتى أنه وعد بتزويج ابنته لمن يقتل جالوت. ومضى أمر الله النافذ بأن ابتلاهم بنهر الأردن الذي يجب أن يعبروه لملاقاة العدو، وهنا وبتصرف غريب منع طالوت رجاله من الشرب إلا من اغترف غرفة بيده برغم عطشهم الشديد وخروجهم للقتال مكرهين بأمر هذا الملك الذي كانوا قد اعترضوا عليه ابتداءً. ولنا هنا وقفة، فلن ندافع عن أولئك المتخاذلين، لكن يجب أن نفهم أسباب هذا التخاذل حتى نستطيع أن نتعلم منها كيف يكون الصبر فالنصر. وباختصار نستطيع القول إن تراكم أسباب التخاذل والطريقة التي تدرجت بها جاءت بنتيجة مهولة، حيث إن الجيش كله تقريباً شرب ولم يغترف، فشرب من النهر ستة وسبعون ألفاً ولم يبق مع طالوت غير أربعة آلاف فقط من أصل ثمانين ألفاً، هؤلاء الأربعة آلاف كانوا من علمائهم ومؤمنيهم الصادقين الذين صبروا فاغترفوا من النهر فقط ولم يشربوا. ولكن الأمر لم يقف عند هذا الحد، فانظر وتأمل معي عزيزي القارئ عمق تأثير هذا التخاذل حتى ولو كان هدف أولئك المتخاذلين تجنب الحرب وإراقة الدماء وأن (الصلح مع جالوت خير) زعموا لذلك فالنتيجة الأعجب لهذا التخاذل أنه امتد أثره على غالبية الأربعة آلاف فانسحب أغلبهم حتى انكمش الجيش إلى ثلاثمائة وأربعة عشر رجلا فقط. قال بن عباس رضي الله عنه عن غزوة بدر الكبرى: (كنا كعدة أصحاب طالوت، ثلاثمائة وأربعة عشر رجلا) ثلاثمائة فقط من أصل ثمانين ألفا فتأمل!. وهنا لنا وقفات بسيطة وذلك لأن أعجب ما في هذه القصة هو أن هذا الابتلاء كان في الحقيقة مجرد عملية فرز تمت على مراحل متعددة للوصول لأفضل مجموعة من ذلك الجيش العرمرم ولو كانت صغيرة، وأيضا أن الله عز وجل كتب لهم النصر لما لجأوا إليه أولاً سبحانه بالرغم من هذا الابتلاء العظيم ثم، لأنهم وثقوا بقائدهم المحنك الذي أدار هذه الكارثة باحترافية بالغة، ثم لإيمانهم بعدالة قضيتهم رغم قلة عددهم. وهناك درس عميق آخر لنتائج الصبر عند اشتداد الخطوب، لأنه هنا تظهر معادن الرجال ومدى إيمانهم بقضيتهم العادلة بعد إيمانهم وثقتهم بربهم أولاً ثم بقيادة زعيمهم الحكيم، وعلى النقيض نرى أيضاً التخاذل وما يعمل، فمن قدم دنياه وشهوته الدنيوية بشرب الماء خسر قضيته ولم يفلح مع من امتدحهم ربهم من المفلحين بل تاهوا وضاعوا في غياهب التاريخ واندثروا كأن لم يكونوا أبداً. وأيضاً ترى بكل وضوح عزيزي القارئ الفطن اللبيب كيف أثر المتخاذلون بقصد أو دون قصد على الأربعة آلاف الباقين حتى سحبوهم معهم من أرض القتال تاركين العبء الأكبر على تلك القلة الصابرة الشجاعة التي أنعم الله عليها بالنصر المؤزر على عدو يفوقهم في العدد والعتاد. والسؤال هنا عزيزي المغرد القطري القابع تحت الحصار الجائر للسنة الرابعة على التوالي والمشوب بنية غزو قذرة، لو كنت من ضمن جيش طالوت فهل كنت ستكون مع من شرب من النهر؟ أم مع الأربعة آلاف الذين غلبتهم روح الهزيمة؟ أم مع صفوة الصفوة؟ أترك لكم الإجابة.