15 سبتمبر 2025

تسجيل

عصور الظلام في الإسلام.. كيف تشكل عقلنا الحديث؟ (1)

12 يوليو 2023

اجتهدت في مقالات سابقة لتشكيل صورة متكاملة قدر الإمكان للكيفية التي صيغ بها الفكر الغربي في القرون الأخيرة من وجهة نظر نقدية للعلوم السياسية وكيف تأثرت بها شعوب كثيرة. وكيف أوصلت العولمة واحتكارها المتزايد، لكل شيء، وخاصة حركة الفكر والعلم، العالم إلى المرحلة التي نحن فيها من الانحطاط على مستويات عدة. والسؤال الذي طرحته في ختام ذلك الجهد كان، أين موقعنا من كل ذلك وماذا نحن فاعلون؟ للإجابة يجب، أولا، تحديد مفاهيم أخرى، منها، مَنْ نحن. هل «نحن» تعني العرب، كل دولة على حِدَة، بكل ما فيها من مكونات، أم تعني الشعوب الناطقة بالعربية، أم الحكومات، وفي هذه الحال، ما الجهة التي تمثلها جمعيّاً، هل هي الجامعة العربية، أم لا يوجد ممثل جمعي لها. أم أنّ «نحن» تعني المسلمين وشعوب الأمة الإسلامية بغض النظر عن لغاتها، وفي هذه الحال، ما هي الجهة التي تمثلها جمعيّاً، هل منظمة المؤتمر الإسلامي، مثلا، أم الممثل المفترض الغائب، وهو الخلافة، وهل حضوره يفيد؟ السؤال المحوري التالي، هل هناك عقل جمعي عربي أو عقل جمعي إسلامي، أو هل هناك أمة عربية أو أمة إسلامية؟ بل ربما نسأل في مرحلة أعمق لاحقا، من هو العربي، ومن هو المسلم؟ يضاف إلى ذلك سؤال جوهري آخر هو، كيف تشكل «العقل» الحديث شرقا؟ بعدما فهمنا ولو جزئيا، كيف تشكل «العقل» الحديث غربا. بداية يجب التفريق بين فكرتين متضادتين، يخلط بينهما كثيرون، حتى من الباحثين والكتاب، هما فكرة العقل الجمعي وفكرة عقلية القطيع، ولأنهما صورتان متناقضتان، فوجود إحداهما ينفي الأخرى. فإما تكون هناك عقلية جمعية أو عقلية القطيع، وهما كما أوضح مفكرون غربيون، منهم جوستاف لوبون، في كتابه سيكولوجية الجماهير، وعرب، منهم د. جلال أمين، في كتابه «عصر الجماهير الغفيرة»، تُصنعان صناعة. وعندما يفشل العقل الجمعي تظهر عقلية القطيع. ففي حالة العقل الجمعي تكوم القيادة للشعب وفي حالة عقلية القطيع تكون القيادة للنُخبُ. هذا ما يقول فيه د. جلال أمين إن حكم الجماهير الغفيرة أسهل كثيرا من حكم المجموعات الصغيرة. ففي التجمعات قليلة العدد يستطيع كل فرد التعبير عن رأيه بوضوح ويناقش ويعارض رأس المجموعة مباشرة، وعندما يتفق الجميع أو الأغلبية يتكون العقل الجمعي الذي تتحرك به المجموعة. وهنا تتحقق الشورى والديمقراطية أو «ديمقراطية الشوري» كما سميتها. أما في التجمعات الكبيرة يتعذر النقاش وإيصال الرأي فيتحول الأمر في الغالب إلى إعلان أفكار أو قرارات، (قد تكون أفكارا مضللة أو قرارات ظالمة أو حتى شائعات) من جانب الرأس عبر وسائل إعلامه فلا تتمكن الجماهير من مناقشتها. هنا تتشكل عقلية القطيع فينساق الناس وراء الرأس من دون أن يتمكنوا من التعبير حقيقة عن آرائهم ومن يحاول جاهدا إيصال رأيه يتهم غالبا بأنه خارج عن الجماعة. وهذه مشكلة جوهرية في العالم المعاصر هي أساس خطير من أسس الدكتاتورية أُوصفها كالتالي: الحاكم أو الحكومة في العصور الحديثة وبما أنه يمتلك أجهزة الحكم ومنها الإعلام فهو يملك الصوت الواحد الذي يصل إلى الجميع في نفس اللحظة تقريبا، أما الجماهير وبرغم شيوع وسائل التواصل الإجتماعي، فأصواتهم متفرقة متشرذمة، لا تُسمَع كصوت واحد حتى بفرض اتفاقها جمعيا في مقابل صوت الحاكم. فارق كالفارق بين الشمس وأعواد الثقاب.تماما مثل جهتين متحاربتين إحداهما قليلة العدد لكنها تملك سلاحا فتاكا يمكنه تدمير دول كاملة في لحظات والجهة الأخرى شعوب لا تملك إلا ألسنتها وآراءها، فلمن تكون الغلبة؟! هنا نبدأ في التساؤل وكيف يُصنع العقل الجمعي وكيف تصنع عقلية القطيع؟ والإجابة عنه ستقودنا للإجابة عن التساؤلات التي طرحتها في البداية. هذا السؤال أجبت عنه في مقال بجريدة «الأهرام» منتصف 2010 قبل شهور قليلة من ثورات الربيع العربي بعنوان «أنبياء العصر» مستوحيا إياه من تعبير «أنبياء العولمة» الذي سبق وعرفته، وقصدت بأنبياء العصر وقتها، بصفة خاصة، محتكري وسائل الإعلام في الدول السلطوية من كُتاب ومقدمي برامج تلفزيونية وحذرت من أن هؤلاء احتلوا مكان الأئمة ورجال الدين في المساجد والكنائس وصاروا هم قادة الرأي، فصارت منابر الدعوة هي القنوات التلفزيونية والصحف. وصار الإعلامي أهم كثيرا من رجل الدين فهو يستضيفه في برنامجه مثلا ويتحكم بقدر كبير في ما يقوله. وهنا يجب التنبه إلى أن أنبياء العصر ليسوا مقصورين على الشرق أو الغرب بل هم الآن في كل مكان تقريبا ويشملون أيضا بعض السياسيين والمشاهير على اختلافهم. ونخلص إلى أننا نحن العرب والمسلمين، وصلنا إلى وضعنا الحالي بعد عصور طويلة من الظلام في بلاد الإسلام أدت إليها، تقريبا، نفس الأسباب التي شابت الحركة الفكرية في أوروبا. هنا أشير إلى أن البعض يظنون خطأ أن الغرب خرج من عصور الظلام بداية مما سمي عصر التنوير، وأنه شكل عقلا جمعيا حديثا والحقيقة أن نظرة عميقة للأمر تكشف أنه مازال في عصور ظلام، مثلنا تماما، ولكن بطريقة مختلفة، والشاهد على ذلك منتجاته «الحضارية»، التي تتجلى في ترويج الإلحاد والشذوذ. فمتى بدأت عصور الظلام في الإسلام، ومتى كان لدينا، مسلمين أو عربا، عقل جمعي؟ ومتى فقدناه؟ وكيف تشكل «عقلنا الحديث»؟ وللحديث صلة.