10 سبتمبر 2025

تسجيل

العبودية.. "أفرأيت من اتخذ إلهه هواه"؟!

12 يونيو 2024

ذكرت في المقال السابق أن للحرية معاني كثيرةً، واليوم أقول إنه قد تكون للعبودية معاني أكثر. في مجموعته القصصية "العبودية"، التي كتبها في عشرينيات القرن الماضي، يتحدث الأديب الروسي "الثائر" مكسيم غوركي عن أنواع من العبودية تكاد تشمل كل أشكالها، من عبودية العمل والفقر إلى عبودية الحب والفكر والعادة (الروتين)، إلى عبودية المجتمع والمركز الاجتماعي. وهو يرى إجمالا أن الحرية ليست إلا وهما، وأن الإنسان يكون غالبا عبدا لهواه. وهو يقترب بهذا من المعنى القرآني "أفرأيت من اتخذ إلهه هواه". وهذا بدرجة كبيرة هو ما يسعى أعداء الإنسانية لجعله حال الناس جميعا في إطار "صناعة الكفر"، من خلال إتاحة الحرية للوصول إلى كل الموبقات والدنايا مقابل "تصعيب" كل الطيبات والصالحات. في كتاب مهم عن العولمة (حاضنة صناعة الكفر) بعنوان (-2001 The No-Nonesense Guide To Globalization) أو "الدليل الخالي من الهراء للعولمة" يقول المؤلف وين إيلوود، الذي كانت لي معه مداخلات مهمة ربما نأتي على ذكرها لاحقا، إن هدف أصحاب رأس المال، أرباب العولمة، كان وما زال هو السعي الدائم والأبدي وراء تعظيم رأس مالهم. وهذا كلام وإن كان صحيحا فإنه لا يذكر الحقيقة الكاملة لأهداف العولمة. وفي تعريف المراجع العالمية، ومنها وزارة الخارجية الأمريكية، لأسباب العبودية أنها توفر لأصحاب رأس المال ربحا أكبر كثيرا حتى من العمالة زهيدة الأجر، لأن العبد لا يتكلف إلا نفقة طعامه وسكنه في أي ظروف وبأرخص التكاليف، أما العامل الحر فيحتاج لمستوى مختلف من المعيشة مهما قلت تكلفتها. لكن تظل هذه أيضا حقيقة غير كاملة، فأصحاب رأس المال أعداء الإنسانية لا يهدفون، في نهاية الأمر لا إلى تعظيم ثرواتهم فقط ولا إلى تقليل نفقاتهم فقط، ولكنهم يريدون استعباد البشر على الحقيقة في إطار فرض أفكارهم الشيطانية عليهم لمنع عبادة الله في الأرض، كما يشير د. بهاء الأمير في كتابه المهم "الوحي ونقيضه"، 2006. يقودنا هذا الحديث للنظر بعمق في معنى "الاستعباد الجماعي للبشر" الذي أشرت إليه في المقال السابق، لنجد أنه في الوقت الذي تخرج فيه التقارير تترى عن تزايد بل واستفحال ظاهرة العبودية الحديثة فإنه تجب ملاحظة أن تلكم التقارير والتي تصدرها بالطبع هيئات ومنظمات تابعة للمنظومة الدولية، الخاضعة لرأس المال، تركز على حالات من تلك العبودية محدودة ومقصورة على الصور التقليدية مثل الاتجار بالبشر والاستغلال الجنسي. كما يجدر الانتباه إلى أنه رغم كل الحديث عما يسمى منجزات الحضارة الإنسانية ممثلة في الغرب بصفة خاصة فإننا نجد أن "العبودية العارية" أو الاتجار بالرقيق الأبيض في تزايد عجيب، وهو ما رأيت نموذجا منه بأم عيني، خلال زيارة للنمسا قبل نحو 30 عاما لحضور مؤتمر سياسي دولي. كانت الفتيات يجلسن في نوافذ عرض المتاجر في الشارع الرئيسي، في فيينا وفي سالزبورج، بلا ملابس تقريبا، تماما كما تعرض الحيوانات، حاشاكم الله، أو البضائع المعدة للبيع، وما زلن، مع كل الأسف والحزن. والاختلاف الوحيد بين الحيوانات وتلك الضحية أنها تدعوك للدخول بيدها وجسدها معا. وهو ما يدفع إلى التساؤل: هل الجهات التي تعلن أنها تكافح العبودية، تكافحها فعلا أم تغذيها؟ أليس هذا النوع من العبودية أحقر وأقذر من كل عبودية أخرى؟ أليس الأحرى بتلك الدول التي تسمي نفسها متحضرة أن تمنع هذا الشيء بدلا من أن تقننه وتنظمه وتعظمه. والسؤال الأهم، لماذا إذن تسمح تلك الدول بذلك الانحطاط اللاإنساني؟ وهذا سؤال سنجيب عنه بعد قليل. وفق أحدث التقارير التي صدرت خلال العام الماضي، ذكرت منظمة حقوق الإنسان الأسترالية "ووك فري" أن عدد ضحايا العبودية الحديثة ارتفع بنسبة كبيرة في السنوات الأخيرة، وأن ما يقرب من 50 مليون شخص في أنحاء العالم ضحايا للعبودية الحديثة، بزيادة 10 ملايين شخص عن عام 2018، أكثرهم من الرقيق الأبيض. كما توصلت دراسة استمرت عامين أجرتها منظمة الهجرة الدولية مشاركة مع جامعة "بيدفوردشير" البريطانية واختتمت أواخر عام 2019، إلى نتائج مماثلة بل وأشارت إلى أن الأعداد الحقيقية ربما تكون أكبر كثيرا من الأرقام المعلنة. أخيرا، يقول الكاتب الأمريكي الساخر مارك توين واصفاً العبودية في أمريكا ولكن بمنطق المعاكسة: ‏"لقد منَّ الله علينا بثلاث في هذا البلد (أمريكا)؛ حرية التعبير وحرية التفكير وحرية عدم التمتع بأي منهما". أما مواطنه تشارلز بوكوفسكي الألماني الأصل فيعمم مسألة العبودية قائلا: إن العبودية لم تختف أبداً من الوجود، ولكن تمت توسعة نطاقها فقط لتشمل جميع الأعراق. وأحسب أن هذا من أدق ما قيل عن صناعة الكفر وتعميم العبودية لغير الله في هذا العالم. وهنا تأتي الإجابة عن السؤال الأهم: لماذا تسمح الدول المسماة بالمتقدمة بل تعمل بكل جهد على تعميم العبودية بكل أنواعها على البشر ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا؟ والإجابة بكل بساطة هي أن العبودية العارية وعبودية الأجر وغيرهما، كلها تُخفي وراءها الهدف الأكبر، ألا وهو عبودية الهوى والفكر وصناعة الكفر.