13 سبتمبر 2025

تسجيل

الخط الأبيض من الليل: الانحياز للحرية!

12 يونيو 2023

هذه رواية الحب المتطرف والكراهية المتطرفة أيضا، رواية الحرية والقيد، والإبداع والادعاء، والأبيض والأسود. صحيح أن الفن ينبع أساسا من منطقة التماس بين المتناقضات، ولكن المبدع الحقيقي هو من يقتنص تلك المسافة الضيقة ويصنع منها خيطا رفيعا يمكن أن يخيط بواسطته شقوق العالم كله. وفي هذه الرواية تحديدا نجد أن مؤلفها قد نجح في تحويل ذلك الخيط إلى خط، وهو ما جعل كثيرا من القراء يقعون في فخ قراءة العنوان الملتبس، والذي يحيل في شكله الأولي الى حديث "الخيط الأبيض من الليل"، ولكنه هنا مجرد خط أبيض على صفحة سوداء تشبه الليل!. في رواية الخط الأبيض من الليل، يتناقض اللونان الأسود والأبيض فيشكلان فيما بينهما خطا واضحا ودقيقا من الإبداع الروائي الخالص والذي استطاع الكاتب خالد النصرالله أن يتعامل معه بحرفية عالية وخبرة كبيرة في الكتابة بمستويات كثيرة. فهذه ليست روايته الأولى، إذ سبقها بروايات ومجموعات قصصية وضعته في مقدمة المبدعين الكويتيين في السنوات الأخيرة، وميزته عن غيره بدأبه الكبير وحرصه الشديد على تفاصيل عمله إذ يظهر ذلك بملامح شخصياته ودقائق أمكنته ومنمنمات سرده الرفيع. في هذه الرواية تحديدا يعيد النصرالله حكاية الحرية من خلال مدقق لغوي نشأ على حب القراءة حتى المرض، ما أوصله لأن يعمل في إدارة المنشورات التي تعنى بمراجعات مخطوطات الكتب قبل السماح بنشرها، بعد التأكد من خلوها من الأفكار والكلمات والعبارات التي يمكنها أن تعكر صفو القائمين على تلك الإدارة، والذين وضعوا كل محظورات الدولة في كراسة تمثل لائحة للمنوعات، بحيث يسمح بنشر كل كتاب ينجو من تدقيق تلك الإدارة، أما من لم تكتب له النجاة فيحال الى مصيره المحتوم، بإعدامه حرقا. عمل المدقق المراقب بتلك المهنة التي جعلته يتماس تماسا مباشرا مع الممنوعات الفكرية والإبداعية، ويحكم عليها وفقا لمدونة الممنوعات الرسمية الماثلة أمامه. ولكن معنى الحرية أوسع بكثير من مجرد رواية وأبعد من ملامح شخصيات تلك الرواية. وبالتالي لا يستطيع هذا المدقق النابه سوى أن ينحاز لها وان كلفه ذلك الكثير. أعتبر نفسي من المحظوظين بقراءة تلك الرواية أكثر من مرة، كان أهمها المرة التي قرأتها فيها كعضو في لجنة تحكيم الجائزة العالمية للرواية العربية والتي يطلق عليها عربيا "جائزة البوكر"، ولأنني لا أستطيع إفشاء أسرار اللجنة وهي تتداول في شأن الروايات التي رشحت للقائمة الطويلة ثم للقائمة القصيرة، ورواية الخط الأبيض من الليل، منها، فأنا فقط أشير إلى أنها كانت واحدة من الروايات الإشكالية جدا في ذهنية لجنة التحكيم عموما. وهي فازت بإقبال القراء عليها لاحقا ليس بسبب وصولها الى القائمة القصيرة لتلك الجائزة المهمة وحسب، ولكن أيضا لأنها رواية تمتاز بسر يجعل قارئها في حيرة من مشاعره المتناقضة بعد قراءتها. فهي تسلمه الى التساؤلات الوجودية الكبرى حول الحرية ومعناها وضرورتها في الوجود الإنساني، بأيسر الطرق وأكثرها قدرة على استجلاب المتعة، والتشويق!. ورغم أن كثيرين رأوا في الرواية مبالغة بتوصيف الحظر الإبداعي في الراهن، وأرجعوا مقولات الكاتب الفكرية فيها إلى فترات عانى فيها الفكر الإنساني من المنع والحظر، إلا أن من يعيش عالم الكتابة والنشر، حتى في سياق ما توفره التكنولوجيا من سهولة ويسر ومجانية في نشر كل ما يمكن أن يكتبه الكتاب تقريبا، يشعر بقوة القضية التي تناقشها الرواية وأهميتها إن لم يكن هنا فهناك!. الجميل أن خالد النصر الله وهو الحريص على عدم إفلات خيوط شخصياته، وهي تتحرك في إطار ضيق في الزمان والمكان نسبيا على مدى ما يقرب من 270 صفحة فقط، لم يغفل عن جمال لغته حتى وهو يشرح أعنف القضايا في مجال الكتابة والنشر، فيمضي في سحر اللغة كما مضى مدققه الغريب الذي يميل إلى الروائيين المتمردين ويستعين بمطبعة ورثها عن أبيه، فيصير ملاحقا، تقوده رغبته وهوسه إلى نهاية مفاجئة ومريبة تاركاً خلفه رواية محفورة على جدار مخبئه"، أما خالد النصرالله فقد قادته رغبته في الكتابة وهوسه بالحرية إلى أن يرى يرسم الخط الأبيض من الليل على جدار أسود يلتف حولنا فلا يراه سوى المبدعين!.