02 نوفمبر 2025

تسجيل

والي الشام، سعيد بن عامر

12 يونيو 2016

عُرف الخليفةُ الراشد، عمرُ بن الخطاب، رضي الله عنه، بالعدل والحزم، كما هو مشهور في التاريخ، ومدوَّن في أنصع صفحاته، مما أضحى من المفاخر والذخائر ليس في حضارة الإسلام فحسب، بل في المدنية الإنسانية جمعاء، لقد كان العدل في شخصية أمير المؤمنين عمر، هو القائد له طول مدة خلافته.. في ذلك الحين احتاج الشام إلى والٍ، بعد أن أصبح مقعد الوالي منتظراً اختيار والٍ جديد، فأخذ عمر يبحث ويُجيل فكره، ويقلب بصره في صحابة رسول الله من حوله، ليصطفيَ واحداً منهم والياً على الشام، وهي ليست أي ولاية، إنها الشام، تلك الأرض والحضارة ذات الفضل والأهمية والمنزلة، بين حواضر بلاد المسلمين، من هنا وجب فيمن يتولاها أن يكون على قدرها، دينا وفضلا وعملا، لم يطل تفكير عمر حتى هداه فكره إلى صحابي رآه مناسبا وخليقا بما يوكل إليه، من أمانة وعهد؛ إنه سعيد بن عامر، ذلك الرجل الذي لا يمتاز في مظهره ولا عيشه عن أحد من عامة المسلمين وفقرائهم، الرجل الذي يَعُد نفسه في الدنيا زائراً لا مقيماً، أو قُلْ هو يمر عليها كأنه عابر سبيل، لا يلبث أن يرحل وينتقل، إذ لم يكن ليَلْفتَه شيءٌ من حظوظها ومكتسباتها المطلوبة التي يُغرَى بها الناس. استدعاه عمر فلما جاءه عرض عليه الأمر، وأيُّ أمر، إنه القيام على ولاية اختارها القدر على يد عمر لتكون على (حمص)، فوجئ سعيد بن عامر بما سمع، حتى إنه وجم وارفضَّ وجهه عرقاً، وسكت وكاد سكوته يطول، فلما نطق قال: إني أعتذر يا أمير المؤمنين، لا تَفْتِنّي يا أمير المؤمنين. ولكنَّ عمرَ لم يقبل عذره، وكانت له حجة صادقة، حاجج بها سعيد فغلبه بها، إذ قال: (والله لا أدعك، أتضعون أمانتكم وخلافتكم في عنقي، ثم تتركونني؟)، بعدئذٍ أبدى سعيد قبوله، ولم يجد مناصاً من الانقياد لأمر الخليفة عمر. استعد سعيد بن عامر للذهاب إلى حمص مع زوجه، وقد زوَّده عمر بن الخطاب، بما يحتاج إليه من مال ليقيم به حالَه هناك، ويصلح به شأنه، فيكون له عوناً على أداء عمله، والنهوض بمهمته، فبلغا حِمْصاً واستقر بهما المقام بها، وكانت حمص وقتئذٍ مدينة مزدهرة رغدة، تزخر بصنوف البضائع، وفنون الزخارف، وطيبات الأرزاق، التي تفتن العقول، وتُغري النفوس، وكانت امرأة سعيد شابة حسناء في ريعان شبابها، فأعجبها واستمالها ما رأت من مباهج الحياة وزينتها، التي لا عهد لها بمثلها، فرغبت إلى زوجها، أن يبتاع ما يحتاجانه، وما يليق بهما من لباس وأثاث ومتاع، مما تمتلئ به أسواق المدينة الجميلة، وهو مما حلله الله وأباحه، ولكن سعيداً، فكّر ملياً في شأنه، فلم يَجُز عليه قولها، وما تطلبه وتشتهيه، فقال لها: ألا أدلك على خير من هذا؟ نحن في بلاد تجارتها رابحة، وسوقها رائجة، فلْنعطِ ما معنا من مال من يتجر لنا فيه. فتهلل وجهها، واستجادت رأي زوجها، ولكن لحرصها على المال والاستمتاع به، قالت: ماذا إن خَسِرت تجارته؟ قال سعيد: سأجعل ضمانها عليه. قالت: نعم، نعم إذن، على بركة الله الكريم.ذلك كان قول سعيد، ولكن فعله كان شيئا آخر، فإنه اكتفى من ماله بأن اشترى ما احتاجت إليه معيشتهما من الضروريات، التي لا بد منها، واجتنب ما كان من الكماليات، ثم انطلق يفرق باقي المال، وما بقي هو الأكثر، وجعل يعطي الفقراء والمساكين وذوي الحاجات. كانت زوج سعيد متربصة بالأيام والشهور، تَعدها منذ ذلك اليوم الذي قال لها فيه سعيد اقتراحه باستثمار المال في التجارة، تنتظر لتجني الأرباح الوفيرة التي تمكنها من شراء ما تبتغيه، فجعلت تسأل سعيداً من فترة إلى فترة عما صارت إليه تجارتهما، وعن مدى ربحهما فيها، وكان سعيد يجيبها بابتسامة لطيفة قائلا: إنها تجارة موفقة، وإن الأرباح تنمو وتزيد. فكان قوله هذا يصبرها ويطمئنها ولو إلى حين.. وافق ذات يوم، أن زارهما في البيت قريب لسعيد، مطّلع على أحواله، عالم بشؤونه، فبدا لزوج سعيد، أن تسأل في حضوره عن حال تجارة زوجها، وما بلغت إليه، فالتفت الضيف متعجباً، وقال: أيُّ تجارة تعنين؟! أَوَلِسعيد قريبي وصاحبي تجارة في السوق؟! إن هذا لقول عجيب، وأمر غريب. وطفق يضحك ضحكا عاليا، حينئذ أخذتها المفاجأة بل الصدمة، وكانت صدمة عنيفة جداً، فأمسكت بكتف زوجها تهزه؛ راجية أن يَصدُقَها القول، فقال لها بهدوء وسكينة، وعلى ثغره ابتسامة خفيفة: لقد تصدقت بجميع المال منذ ذلك اليوم، الذي خرجت فيه وأنا أحمله. فلطمت خديها وبكت، وهي تقول: أما كنت أنا زوجك وحبيبتك أولى به، وقد علمت أني أشتهي شراء أشياءَ تهواها نفسي، وتميل إليها بشدة، وأنا متعلقة بها جداً. فقال سعيد: "لقد كان لي أصحاب سبقوني إلى الله، وما أحب أن أنحرف عن طريقهم، ولو كانت لي الدنيا بما فيها"، لم تتأثر كثيرا بقوله هذا، واستمر ما بها من حزن وأسف، فأردف سعيد قائلا، وقد ازداد عطفه عليها، ورفقه بها: "تعلمين أن في الجنة من الحور العين، والخيرات الحسان، ما لو أطلَّت واحدة منهن على الأرض لأضاءتها جميعاً، ولقهر نورها نور الشمس والقمر معاً، فلأن أضحي بك من أجلهن أحرى وأولى، من أن أضحي بهن من أجلك"، عندئذ هدأت زوجه، وثاب إليها رشدها، وأحست بنفس زوجها، وفهمت فكره، وقدّرت مشاعره، ورأت أن من الخير لها أن تساير زوجها، وتقنع راضية بمنهجه، وتعيش معه حياته التي ارتضاها لنفسه. مرت الشهور والأعوام على سعيد بن عامر وزوجه، وهو والٍ على حمص، على هذه الحال، كان فيها مثال العدل والحق، يتقرب إلى الناس ويتودد إليهم، حتى أحبه الناس هناك وأجلُّوه، ولكن كما قد قيل في القول المشهور: إن إرضاء الناس غاية لا تدرك. ومهما يكنِ الإنسان خيِّراً ممتازاً، يجدْ له من السفهاء والجهلاء، من يقول فيه قالة السوء..قَدِم أمير المؤمنين عمر ذات سنة حِمْصاً، ليطمئن بنفسه على أحوال رعيته، ويقف على رضاهم عن واليهم، الذي أقامه عليهم، فسأل أهل حمص وكانوا جمعاً غفيرا: ما تقولون في سعيد؟ فخرج نفر يشكون من سعيد بن عامر، دَهِش عمر من قولهم هذا، وطلب إليهم تبيان شِكاتهم هذه، فقالوا: نشكو منه أربعاً؛ إنه لا يخرج إلينا حتى يتعالى النهار، ولا يجيب أحداً بليل، وله في الشهر يومان لا يخرج فيهما إلينا ولا نراه، وأخرى لا حيلة له فيها، ولكنها تضايقنا وهي أنه تأخذه الغَشْية بين الحين والحين.ازدادت دهشة عمر، وقال محدثا نفسه: "اللهم إني أعرفه من خير عبادك، اللهم لا تخيّب فيه فِراستي"، ثم دعا سعيداً ليرد عن نفسه، ويحاجج عنها، فشرع سعيد يقول: أما قولهم: إني لا أخرج إليهم حتى يتعالى النهار، فوالله لقد كنت أكره ذكر السبب، إنه ليس لأهلي خادمٌ، فأنا أعجن عجيني، ثم أدعه حتى يختمر، ثم أخبز خبزي، ثم أتوضأ للضحى، ثم أخرج إليهم. أما قولهم: لا أجيب أحداً بليل، فوالله لقد كنت أكره ذكر السبب، إني جعلت النهار لهم، والليل لربي. وأما قولهم: إن لي يومين في الشهر، لا أخرج فيهما، فلأنه ليس لي خادمٌ يغسل ثوبي، وليس لي ثياب أبدلها، فأنا أغسل ثوبي ثم أنتظر حتى يجف بعد حين، وفي آخر النهار أخرج إليهم. وأما قولهم: إن الغشية تأخذني بين الحين والحين، فقد شهدت مصرع خبيب بن عَدي الأنصاري بمكة، وقد بضَعَت قريش لحمه، وحملوه على جَذعة، فكلما ذكرت ذلك المشهد الذي رأيته، وأنا يومئذٍ من المشركين، ثم تذكرت تركي نصرة خبيب يومها، أرتجف خوفاً من عذاب الله، ويغشاني الذي يغشاني. عندئذ زال عن عمر ما ألم بنفسه، وبدا على وجهه الارتياح والرضا، وتوجه إلى ربه قائلاً: "الحمد لله الذي لم يخيب فراستي".. وهكذا بقي سعيد بن عامر، رضي الله عنه، محمود السيرة في ولايته، حتى قبضه الله إليه، سنة عشرين للهجرة، والتحق بركب الرسول وصحابته، الذين عاش على نهجهم في حياته، ولم يتخلف عنهم.