15 سبتمبر 2025

تسجيل

منطق الاستجداء في الشِعر

12 يونيو 2013

"أعذب الشعر أكذبه" تقولها الحياة وأصحاب الفنون الجميلة، وإن كان في ذلك تجنٍ واضح وظلم جليّ لأسمى أشكال اللغة، ذلك الذي عرفه نزار "الشعر هو الأداة الراقية بين الهامس والمهموس له، أداة تصلنا بالآخرين وتوحدنا معهم". ولعل الأغراض الشعرية التي تنتهجها كل قصيدة كثيرة ومتعددة، أكانت في شعر العصر القديم كالفخر والغزل والمدح، أو من أغراض الشعر الحديث كالتغزل في المركبة "السيارة" والتي أعتبرها من وجهة نظر خاصة غرضا مستقلا، وإن كان رواده قلة. وإذا كان المدح هو الغرض الثابت منذ الأزل، المقبول نوعًا ما، إذا ما كانت في الفضائل كالشجاعة ورجاحة العقل والحلم، فما هو غير المقبول، ذلك الذي خرج من رحم المدح، المنطق الذي لا علاقة له بالشعر فيما يخص المعنى، ولكنه جمال الأسلوب فقط: "منطق الاستجداء" أو هو الشحذ على السواء. إنني لا أتخيل أن يتحول الشاعر من دور العطاء إلى ما هو عكس ذلك، أن يخرج من تصنيف الجمال إلى تلويث الهواء الذي يطلقه للمتلقي، بدافع وضيع كالتزلف والتملق والتمرغ أمام النخبة والعامة. لعله لا يطوف الشاعر المستجدي أن شخصية الإنسان في الحياة ديناميكية متغيرة، وأنها ليست " أبدًا " ستاتيكية ثابتة، وأن المتنبي الذي مدح كافور الأخشيدي في أول الأمر، هجاه أخيرًا. ويذكر ذلك علي الوردي فيقول " هم لا يترددون أن يجعلوا ممدوحهم ملاكًا في صورة إنسان، وخير من ركب المطايا، ولكنهم لا يكادون يجدون جائزتهم غير كافية حتى يقلبوا عليه ظهر المجن ويجعلوه ألعن خلق الله طرًا." إن هذه العادة الأدبية تفاقمت خاصةً في الشعر النبطي، وقد منحتها ذلك الأفق "مهرجانات السلاطين " كما سماها الدكتور محيي الدين، الأرض الخصبة لازدواجية الشخصية وتثبيت منطقًا لا يتعلق بالجمال، " الشحذ والاستجداء ". الشعر هو الكلام " الجميل " الموزون والمقفى، المتخم بالمعاني، الخالد في صدر الزمن، وحاشية اللسان، تردده المواقف والبطولات، أو الليالي ذات الطابع الرومانسي الرقيق، أو العقل والرأس الحكيم، لا يخرج ذلك من دائرة الجمال. و لكن بعض الشعر يموت متى انتهى عمره الافتراضي، ومن المستحسن موته، فغرض كذلك ليس أمرًا صحيًا أن يعيش بين أقرانه، إن القصائد عزيزة، والذليلة منها فقط تستحق الانتهاء، أو بالأحرى تلك التي ذلها أصحابها وذلتهم بطبيعة الحال. أنا أتنفس الشعر، وأقدّر الشعراء، ولكني لا أحترم أبدًا شاعرًا يعترف بكل ما أوتي من بجاحة، أنه كتب القصيدة " يشحذ "، ذلك أمر يدعو العقل للتقيؤ. " إن المجد للشعر.. إن المجد للأحرار ".