13 سبتمبر 2025

تسجيل

الإرهاب على الأبواب

12 يونيو 2013

هذا العنوان اختارته إحدى الصحف التونسية الأسبوع الماضي على صفحتها الأولى لتستعرض حادثة أليمة تمثلت في استشهاد رجلين من القوات المسلحة في محافظة القصرين وعلى طريق مدينة آهلة بالسكان تحاذي جبل الشعانبي لتمر عبر القرى القريبة منه. ولذلك جاءت صرخة العنوان مدوية ونتيجة صدمة قاسية لعل سببها الطبيعة الوديعة المسالمة للمواطن التونسي عادة وندرة استعمال العنف لديه تاريخيا واجتماعيا وسياسيا. لكن مظاهر انتشار بعض مكامن الإرهاب المسلح منذ سنوات قليلة في منطقة المغرب الإسلامي وعلى حدوده الصحراوية جاءت لتؤكد أن تونس ليست أبدا في مأمن أمين من الهزات العنيفة التي تعصف بالعالم العربي والإسلامي والتي تحركها صراعات الأمم الكبرى من أجل حماية مصالحها الحيوية بوسائل تغذية وإذكاء نزعات الهوية والطائفية والأيديولوجية حتى يتحول صراع الأمم الكبرى إلى صدامات بين العرب والمسلمين يؤدي إلى شرذمة دولنا وتقسيم الموحد منها والزيادة في تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ كما يحدث في العراق ولبنان وفلسطين والسودان ويهدد سوريا ويمتد ليطال تركيا وإيران وباكستان والقوقاز. تونس كسائر الجسد العربي تتداعى أعضاؤها بالسهر والحمى بفضل لقاح وسائل الإعلام والاتصال اليومي التي تيسر تواصل شبابها بالعالم وتفاعله مع أزمات أمنية طارئة أنتجتها التحولات العميقة المسماة بالربيع العربي. وإذا أقررنا بأن ظاهرة الإرهاب عالمية وبأن جانبها العنيف ارتبط بالعالم الإسلامي فإن وصولها إلى تونس منذ سنوات جاء كردة فعل تكاد تكون طبيعية ومتوقعة ضد عقود من تغييب الهوية وطمس الذات الإسلامية وتعويض نواميس المجتمع التونسي المسلم بقوانين استوردتها حكومات مفروضة بالقهر من أعتى المجتمعات الأوروبية انسلاخا عن الأخلاق والقيم يجوز فيها الإجهاض ولا رادع له بالقانون، تتساوى في ذلك المرأة المحصنة أو العزباء وفيها أيضا يباح الزواج المثلي باسم الحريات الشخصية مما أصاب بلادنا بسبب قربها من أوروبا بما يشبه العدوى وفي بلادنا كان أحرى بنا أن نجتهد في ملاءمة قانون الأحوال الشخصية مع واقع مجتمعنا ومقتضيات المصلحة الأسرية في بعض الشؤون، كألا يجبر الرجل على طلاق زوجته العاقر لكي يتزوج بثانية فتحرم العاقر من الأمومة التي تتاح لها بزواج زوجها من امرأة ولادة ويرمي بها للدعارة وللشارع، بينما كان الأفضل أن تظل في بيتها محترمة وتربي أولاد الثانية كما عشنا وشهدنا في طفولتنا. وفي الأسرة التونسية يتم تدريجيا تعويض المودة والرحمة بالمحكمة والمحامي. ولا يخفى أن بلادنا من أكثر بلاد العالم في عدد حالات الطلاق والأمراض النفسية وتعاطي المخدرات وتفشي العنف اللفظي والمادي وأن القوانين كائنات حية يجب أن تتطور مع تطور المجتمع، لا أن تحنط وترفع حولها شعارات (الخط الأحمر) كأنها كتاب منزل لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وهي صفة لا يتمتع بها سوى القرآن ولا تنطبق على أي قانون وضعي سنه بشر كعامة البشر ولا بد من تلاؤمه مع المتغيرات وعلى ضوء نتائجه ومضاعفاته باستمرار. وقد صادف أن استقبلني مرة رجل نافذ في حكومة تونسية فسألته: "إني سمعتك تقول بأن قانون الأحوال الشخصية خط أحمر فهل قرأت الفصول التي أضيفت منذ 1992 لمجرد الديماغوجيا وجلب زغاريد بعض المطبلات والمطبلين المنسلخات والمنسلخين؟ فقال لي: لا لم أقرأها"، وأنا كنت على يقين أنه لم يدرك بأن قانون 1956 الذي شارك في وضعه بورقيبة والشيخ جعيط وأحمد المستيري والذي كان يهدف إلى حماية الأسرة والمرأة ليس هو الذي أضيفت إليه منذ زواج الرئيس السابق بن علي بزوجته الثانية فصول عديدة قلصت دور الأب ورسالته وقزمت مكانة الرجل، بل جعلته يطرد من بيته وينال احتقار أولاده بدعوى المساواة، بينما لكل من المرأة والرجل خصائص وطباع وبيولوجيا حددها الله سبحانه دون تمييز هذا عن تلك... إننا نلاحظ من خلال الحركات السلفية وانتشار الحجاب وامتلاء المساجد وعودة الوعي الديني والواعز الأخلاقي رفضا للقلب الاصطناعي المزروع زرعا في الجسد المسلم كما لفظت الأجساد القلوب المزروعة على أيدي الطبيب كرستيان برنار في جنوب إفريقيا في ديسمبر 1963 وهو ما يطرح قضية طالما انشغلت بها تتعلق بالحداثة الأصيلة كاليابان والحداثة اللقيطة كبعض البلاد المسلمة التي نزعت أصولها وثوابتها لتلبس خرقا ثقافية واجتماعية مرقعة مجلوبة من الغرب المتعصب العنصري وقد بدأت نخبه هو ذاته ترفضها وتلفظها لفظ النواة. هل يشك أحد منا أن اليابان بلغ قمة التقدم والتكنولوجيا وأصبح المنافس الأخطر للغرب دون أن يتخلى عن هويته وثوابت حضارته؟ فادخل يا قارئي الكريم إلى بيت ياباني عادي وسوف تنبهر بالتقاليد الأصيلة لشعب عريق يحترم فيه رب البيت ويحافظ على تربية أجياله على قيم منغرسة في أعمق أعماق تاريخه. ثم هو مجتمع حافظ على لغته ومقومات ثقافته، فلم يلثغ مثلنا بلهجات مرقعة غلبت عليها لغة مستعمرنا القديم وبالطبع عاداته ولباسه وأخلاقه، كما قال العلامة ابن خلدون في تحليل علاقة المغلوب بالغالب. خلاصة رأيي أن ما نسميه مقاومة الإرهاب يجب أن يكون مشروع حضارة تسترجع عافيتها لا مجرد قرع طبول مع أننا ندعو للوسطية والاعتدال ونبذ العنف، فلا يجوز لأي جماعة أن تكفر المجتمع، بل الغاية أن ندعو جميعا للإصلاح بالتدبر الحكيم وغير المنحاز في شؤوننا بداية من التربية والتعليم لإعادة الاعتبار للتعايش في كنف الاحترام وإنتاج مواطنين لا صناعة مستهلكين وتونس قادرة على تجاوز المحن العابرة وأثبتت عبقريتها منذ الأزمنة الغابرة.