19 سبتمبر 2025

تسجيل

مهازل ترتكب باسم الحداثة

12 يونيو 2011

لم أجد مصطلحاً تم تعويمه على أيدي المثقفين، مثل مصطلح الحداثة الذي أصبح كالكرة (الشراب) عندما كان يتقاذفها أطفال الحارة في سالف الأيام، وأقول في سالف الأيام لأن أطفال اليوم في شغل شاغل عنها بالبلاك بيري والآيفون والآيباد، وحتى الذين لديهم ميول رياضية.. انصرفوا لمتابعة أخبار برشلونة وريال مدريد والمنتخب الإنجليزي والمنتخبات العالمية الأخرى، وغابت الكرة (الشراب) مع غياب حاراتنا القديمة، التي حلت محلها العمارات الشاهقة والشوارع الفسيحة و(المولات) المزدحمة، وكلها من مظاهر الحداثة أيضا، والتي ما عرفت يوماً عبثاً بها كما عرفته على أيدي المثقفين العرب، على يد منظـِّر مهووس بكل النظريات النقدية في الغرب، أو مبدع يستعبده التغريب والطلسمة، وفي يقينه أن الحداثة هي أن يقدم ما لا يفهم، بعد أن يرحل إلى جزر غامضة بعيدة غير مأهولة، أو يحلق في سماوات وهمية هلامية غير مرئية، وعليك أنت أيها المتلقي، أن (تعصر مخك) وأن تبذل جهدك لتبحر إلى هذه الجزر، أو تحلق إلى تلك السماوات، وإن ضاقت بك الحيلة، ولم تفهم ما لا يُفهَم، فأنت غير حداثي(جاهل) تحتاج إلى دروس عن الحداثة كما يفهمها العابثون بالذائقة الفنية للمتلقي. عليك أن تقبل شعراً كسيحاً تحطمت ضلوعه، وغاب إيقاعه واختفت موسيقاه، وتلاشى إيحاؤه، وخوى مضمونه وشكله من كل علامات الشعر، وإلا فأنت غير حداثي. عليك أن تقبل قصة ليس فيها من شروط القصة ما يبيح لها مشروعية الانتماء لهذا الفن الجميل.. لا حدث.. لا شخصية.. لا فكرة واضحة.. لا معنى واضح أو مستتر.. مجرد كلمات، ليست خاطرة فتصنفها في باب الخواطر، وليست مقاله فتدرجها في (خانة) المقالات، وإلا فأنت غير حداثي!! بالمجمل عليك أن تقبل ما لا يقبل، وإلا فأنت غير حداثي!! نحن هنا لا نتحدث عن تجسير العلاقة بين فنون الكتابة، ولا عن تداخل الألوان الأدبية، ولا حتى عما قد يعتري النص الإبداعي من غموض يتيح للمتلقي إعادة قراءته، ولكننا نتحدث عن نوع هجين من الكتابة، لا يكفي أنه لا ينتمي لأي لون أدبي معروف، بل يوغل في تهميش المتلقي، وكأنه مستوحى من عالم آخر غريب، وموجه إلى عالم آخر أكثر غرابة. الحداثة ليست خروجاً على المألوف وهروباً من معضلاته، وليست عبثاً بالواقع وابتعاداً عن همومه، وليست استجداء لما يطرح من أفكار ونظريات في الغرب أو الشرق.. ولكنها حقل ألغام لا يجتازه إلا من تسلحوا بالوعي الكامل لمسؤولية الإبداع، وتحصنوا بعبقرية الإدراك لمواطن الخطر، وحملوا راية التجديد ليجتازوا بها المحاذير والمعوقات بأمان وثقة، دون اعتراف بالتابوهات المجحفة في حق الإنسان ووعيه وحريته وكرامته، والقوالب الجاهزة لتقييده، ونحر كرامته، وتغليل من الإغلال إنسانيته، وتحييد عقله. الحداثة سلوك قبل أن تكون نظرية، وإبداع قبل أن تكون خواءً ثقافياً، ومسؤولية واعية قبل أن تكون عبثاً متمادياً في تحدي كل ما هو جميل ورائع من مشاعر الإنسان وسلوكه، هذا السلوك الذي يعني مواكبة تطور الحياة، والإسهام في هذا التطور بطريقة أو بأخرى، كل حسب طاقته وقدرته على العطاء، وموقعه في ميدان البناء التنموي، حتى وإن غاب التصنيف الأيديولوجي فلن يغيب السلوك الإنساني. وكل ذلك لا يمنع من التجريب، باعتباره نافذة الإبداع للتطور، وهناك تجارب إبداعية ناجحة في الشعر والقصة والمسرح والفنون التشكيلية، وسبب نجاحها أنها لم تتجاهل وعي الإنسان وثقافته، بل فجرت فيه مكامن جديدة للوعي برسالة الفن في الحياة، وقدرته على التفاعل مع مستجداتها، وما انشغل أصحاب هذه التجارب بأن يقال عنهم: "حداثيون"، ولكنهم انشغلوا بالإبداع المتميز بكل مقاييس التميز. [email protected]