11 سبتمبر 2025

تسجيل

الأخبار المضللة ونظرية كيمياء الكذب!

12 مايو 2024

تعد الأخبار المضللة من أخطر التحديات التي تواجه الرأي العام المحلي في مختلف المجتمعات المعاصرة، وذلك لما تحمله مضامين تلك الأخبار من أكاذيب وشائعات تعمل على تسميم العقول واستباحتها من خلال خطاب دعائي مضلل باستخدام اسحلة فتاكة تقلب الحقائق وتحول الحق باطلا، فالأخبار المضللة أو الدعاية الرمادية التي تخاطب العواطف وتخترق الوجدان لم تكن بجديدة على الساحة، بل تعود إلى أزمنة سحيقة وعصور قديمة قدم الإنسان في هذا الكون، إذ يهدف الواقفون خلف ستار تلك الدعايات المغرضة بالدرجة الأولى لنشر الفوضى وزعزعة استقرار البيوت الآمنة والمجتمعات المتماسكة والموحدة؛ وقد تطورت أساليب الدعاية بظهور وسائل الاتصال الحديثة، ودخلت للجامعات كتخصص له مساقات ودراسات بحثية متقدمة مستفيدة من العديد من التخصصات كالعلوم السياسية والاتصال الجماهيري وعلم النفس وغيرها من العلوم الإنسانية ذات العلاقة. وكانت الحرب العالمية الأولى والثانية من أهم الفترات التي انتشرت فيها الحرب النفسية وازدهرت فيها الأخبار المضللة على نطاق واسع، خاصة بظهور وزير الدعاية الألمانية في عهد هتلر (جوزيف جوبلز) والذي يعد من أهم المنظرين في علم الدعاية إن لم يكن الأول؛ بمختلف أنواعها ومصادرها؛ البيضاء والسوداء والرمادية، إذ يعتمد على اختصار مضامين الدعاية في عدة جمل على أن يتم تكرارها على الجمهور مرارا وتكرارا؛ فهو الذي قال: «اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الآخرون، ثم اكذب أكثر حتى تصدق نفسك». من هنا كانت الأخبار المضللة في الإعلام هي عنوان للمحور الأول الذي نظمه قسم الاتصال الجماهيري بجامعة التقنية والعلوم التطبيقية فرع صلالة، وذلك في إطار منتدى «مستقبل الاتصال والإعلام في عصر التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي؛ الاتجاهات والتحديات» والذي ضم العديد من المتحدثين كالإعلامي التونسي الأستاذ محمد كريشان من شبكة الجزيرة الإخبارية والذي تحدث في العرض الثاني بعنوان: (غزة والأخبار المضللة)، بينما كان العرض الثالث للدكتور عمر الصيعري بعنوان (الأخبار المضللة في مواقع التواصل الاجتماعي). وقد تشرفت بأن أكون المتحدث الرئيسي في هذا المحور، بورقة علمية بعنوان «الخطاب الدعائي المضلل في الإعلام العربي»، حيث تمحور الحديث حول وسائل الاتصال الرسمية في الوطن العربي وتضليلها للشعوب العربية عبر العقود، على الرغم من أن ما تحمله من برامج تركز على انصاف الحقائق وتلميع كبار المسؤولين وتقديمهم كبشر خارقين للعادة، إلا أنها أصبحت مكشوفة ومن الصعب تصديقها بأي حال من الأحوال. الغريب في الأمر أن القائمين على هذه الوسائل من الإعلاميين يدركون جيدا أن برامجهم وخطابهم الإعلامي غير مقبول من الناس ويفتقد المصداقية، ولا تحقق برامجهم التلفزيونية والإذاعية منها والصحفية الأهداف المرجوة من الذين يدفعون لها الأموال وينطبق عليهم المثال القائل كالذي يحرث في البحر. هذه الوسائل الدعائية تنظر بعين واحدة فقط هي عين المسؤول الذي يحاول أن يلمع إنجازاته الوهمية من خلال الخطاب الدعائي المكشوف للجميع. لقد جندت الحكومات العربية جيوشا من «المُطبلين» والأقلام في مختلف المنابر الدعائية التي يجب ألا نطلق عليها اسم وسائل إعلام أو الذين ينتسبون لها بـ»الإعلاميين»؛ لكون أن الإعلام يجب أن يكون صادقًا وبعيدًا عن الخطاب الدعائي المضلل الذي يحاول جاهدا قلب الحقائق وتلوين الأحداث والمضامين الدعائية. إن هذه الوسائل التي تحولت إلى أبواق رمادية، وتمارس التنظير المضلل لا يمكن أن يكتب لخطابها النجاح والتوفيق بأي حال من الأحوال. وقد أدرك القائمون على وسائل الإعلام في الغرب أهمية المصداقية الإعلامية في كسب عقول الناس وقلوبهم، ليس حبًا في الصدق؛ بل لمعرفتهم بالمستوى المطلوب لتمرير الكذب عند الضرورة من خلال الرسائل والمضامين الدعائية التي تقدم للجمهور على أنها خطاب إعلامي صادق. من هنا ظهرت نظرية ما يعرف (بكيمياء الكذب) التي تشترط تمرير 95% من الرسائل والأخبار الصادقة أولاً بهدف كسب ثقة الناس، ثم بعد ذلك يمكن بث مضامين ورسائل مضللة وكاذبة عند الحاجة دون اكتشاف ذلك من الجمهور الذي تعود على المصداقية من تلك الوسائل. وقد طبقت الإذاعات الدولية الموجهة للعالم العربي نظرية كيمياء الكذب خاصة إذاعة لندن ومونت كارلو الناطقات باللغة العربية قبل إغلاق الأولى مؤخرا، بينما كانت وما زالت وسائل الإعلام العربية تعرض خطابًا إعلاميًا يقوم على نظرية الرصاصة أو ما يُعرف بـ»حقنة تحت الجلد» التي تشبه انتقال الأفكار من الإعلام إلى الجمهور كالرصاص أو الحقنة المخدرة التي تسيطر بالكامل على قناعات الناس وعقولهم باعتبار أن الجمهور اعزل ولا يستطيع تجنب مضامين البرامج التي يتلقاها بشكل يومي. وفي الختام، لقد وصلت إلى قناعة شخصية؛ بأنه لا يوجد إعلام بمستوى بما يعرف بالسلطة الرابعة التي يفترض لها أن تراقب السلطات الثلاث وتكون ندا لها في كشف المستور، وهذا ليس فقط في بلاد العرب بل وحتى في الغرب، فتلك الشبكات الإخبارية تحني أمام السلطات والحكومات الغربية عند ما تكون هناك حاجة أو مكسب مادي أوقانوني أو حتى سبق صحفي كالحصول على التسريبات من المؤسسات الرسمية في لدى القادة والساسة في واشنطن ولندن وباريس، فالإعلام هنا بكل آسف ضحية للسياسة وتابع للمتنفذين والقادة في العالم قاطبة ولم يكن في يوما من الأيام ينطلق من مبادئ الحرية المطلقة بل هناك سقف محدود يجب رسم للإعلاميين ويجب عدم تجاوزه.