27 أكتوبر 2025
تسجيلإن العنصر البشري يشكل نقطة إجماع بين المنظرين وأصحاب القرار في البرامج التنموية. لكن تبايناً في وجهات النظر نجده فيما يخص البندين الثالث والرابع الواردين في الجزء الأول من هذا المقال. فهناك فريق يرى في بناء القدرات الذاتية بالحدود القصوى الممكنة وتقليل الاعتماد على الخارج هو السبيل الأمثل لتحقيق الاستقلال وردم الهوة مع العالم المتقدم. ولا يتم ذلك إلا من خلال برامج البحوث والتطوير الوطنية، على الرغم من تكلفتها العالية والوقت والجهود اللازمة لها. وإن مردود هذه البرامج سيكون عظيماً على المدى البعيد. بينما يرى فريق آخر أن نقل التكنولوجيا الحديثة وتشغيلها محلياً هو السبيل المختصر والأقل تكلفة والأكثر ضماناً لبرامج التطوير. وهناك فريق ثالث يمتلك رؤية مبسطة مفادها أن البحث يعني دراسة مزايا التكنولوجيا وانتقائها، والتطوير يعني استقدامها. ربما يكون الرأي الأخير هو الأصلح من وجهة نظر المؤسسات الصغيرة والمتوسطة غير القادرة على تحمل أعباء برامج بحوث وتطوير مكلفة وبعيدة المدى. فتطوير مؤسسات العمل الصغير والمتوسط يقوم بالفعل على حلول جاهزة وقصيرة الأمد وذات طابع تطبيقي بحت. بينما لو تناولنا هذه القضية من منظور المؤسسات الكبرى والدول، فإن الأمر يختلف عن ذلك. فلا يمكن للدول ومؤسساتها الكبرى أن تبقى رهينة حلول جاهزة تقدم إليها من الخارج وفق رؤية وشروط المزوّد، وعادة ما يكون دون طموح الدولة أو المؤسسة. إن القراءة والتحليل في أدبيات التنمية بدولة قطر يقودنا إلى الاستنتاجات التالية:- -إن عمليات البحث والتطوير، بشكلها العام، تتكامل مع استقدام التكنولوجيا وتتقاطع معها في مواقع وأوقات معينة، وتصاحبها في أخرى. -إن أي عملية لاستقدام التكنولوجيا يجب أن تكون مسبوقة بعملية بحث ودراسة معمقة لتلك التكنولوجيا، ومن ثم تجهيز الطواقم الفنية القادرة على استخدامها وصيانتها. -يتبع استقدام التكنولوجيا دراسات تهدف إلى تطويرها بقدرات وطنية وبما يتلاءم مع الظروف المحلية. تُعتبر النقطتان الأخيرتان في غاية الأهمية وتشكلان الاستراتيجية الأساسية لمستورد التكنولوجيا. فهما اللتان تكفلان الاستفادة القصوى من استقدام أي تقنيات حديثة وحماية المستخدم من المزوّد الذي تقوم استراتيجيته في تصدير التكنولوجيا على استغلال كل ما لدى المستخدم من نقاط ضعف. ويتمثل الاستغلال في النقاط التالية:- -بيع تكنولوجيات قديمة. فإذا كان لدى المزوّد تكنولوجيات متبقية من نسخ أو أجيال سابقة، وليس لدى المستخدم علم أو خبرة بما استجد في هذا المجال، فإنه قد يبيعه إياها لضمان تصريفها من جهة، ولفسح المجال لبيعه الأكثر تطوراً في المستقبل من جهة أخرى. فما أن يشتري المستخدم التكنولوجيا القديمة حتى يفاجأ بظهور الأحدث والأفضل، وقد يضطر لشراء الحديث إذا كانت ظروف المنافسة تتطلب ذلك. -العكس تماماً، أي بيع نسخ مبتكرة وحديثة جداً. لكن تلك النسخ قد خرجت للتو من مرحلة الاختبار والأعمال التجريبية ولم تدخل مرحلة الاستخدام الصناعي. فيصبح المستخدم الأول لها أشبه بحقل تجارب. فإذا نجح الاستخدام على النطاق الصناعي، استغل المزود ذلك للترويج لهذه التقنية وإقناع الآخرين بمزاياها. وإن لم تحقق تلك المزايا، فإن المزوّد لا يخسر كثيراً، بل بالعكس، سيحصل على معلومات إضافية تفيده في تفادي العيوب وتطوير المنتج لاحقاً. -بيع مستلزمات فائضة عن الحاجة. فقد يقوم المزود بتلميع الكثير من مزايا المعدات المساندة ويقنع المستورد بضرورتها. ثم لا يلبث الأخير، بعد فترة من استخدامها، أن يكتشف أنه قد أنفق مبالغ ليست قليلة على ما كان من الممكن أداء الغرض من دونه. -والعكس تماماً هنا أيضاً. أي بيع تكنولوجيا منقوصة في بعض جوانبها الضرورية. وقد لا يلتفت المستورد الحديث الخبرة إلى أهميتها في البداية. ويضطر لشرائها لاحقاً وفق شروط المزوّد وتحت ضغط الحاجة. من هنا تكمن أهمية التمكن المعرفي من أي تكنولوجيا بصورة تسبق استقدامها لضمان الاختيار الأمثل والتشغيل الذاتي والأكمل. وأيضاً التطوير اللاحق لها حتى استنفاد كل ما يمكن استنفاده قبل الوصول إلى نقطة تحتم استبدالها بتكنولوجيا من جيل جديد. إذاً، على كل عملية نقل تكنولوجيا أن تكون مسبوقة ومتزامنة ومتبوعة بعمليات التحصيل المعرفي المقرون بها عبر: البحوث والتخطيط والتدريب. هنا، لا بد من التشديد على أن عمليات البحوث والتطوير المواكبة لنقل التكنولوجيا، أو المتضمنة لها، لا يمكن أن تكون مكتملة الأركان دون تعاون فعّال ومثمر بين المؤسسات الصناعية والأكاديمية. وقد تم إفراد مقال خاص للمؤلف حول هذا الموضوع (جريدة الشرق\الاقتصادي، 20 يوليو 2016م. اقتصاد المعرفة وجدلية العلاقة بين الجامعة والصناعة). ويتعين على المؤسسات الصناعية، قبل نقل التكنولوجيا، الاستفادة مما لدى المؤسسات الأكاديمية من تراكم معرفي حول أحدث إنجازات العلم والتطبيقات الخاصة بالتكنولوجيا موضع النقل. وبعد الاستقدام، لا بد من استمرار التعاون بغرض استيعاب الابتكارات الأكاديمية المحلية لتطوير التكنولوجيا وتعظيم الفائدة الاقتصادية والبيئية منها.