14 سبتمبر 2025

تسجيل

خالد بن عبدالله خيرة الرجال

12 مايو 2014

googletag.display('div-gpt-ad-794208208682177705-3'); googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1462884583408-0'); }); برحيل الوالد خالد بن عبدالله العطية، فقدت بلادنا أحد أبرز رجالاتها المخلصين الأوفياء الذين تفانوا في خدمة وطنهم وأخلصوا لحكامها الأماجد وشعبها الكريم، وبموته تنطفئ شمعة كانت تضئ الدرب في مسيرة هذا الوطن بما اتصفت به شخصيته من سجايا ارتقت به إلى مصاف الحكماء من الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، ولا غرو في ذلك لأن الشيء من معدنه لا يستغرب، فالحديث عنه يطول ويطول فهو سليل أسرة كريمة وعريقة قدمت الشهيدين والده وجده رحمهما الله اللذين وهبا روحهما فداءً لتراب الوطن وكرامته وسال دمهما الزكي لذلك الهدف، وبوفاة خالد بن عبدالله كذلك تطوى صفحة ناصعة من صفحات القيم النبيلة والأخلاق السامية التي توجب علينا الوقوف وقفة تأمل وإجلال أمام السيرة العطرة التي تحلى بها في حياته التي امتدت قرابة الثمانية والثمانين عاماً لتستذكر الأجيال تلو الأجيال مآثر الأسلاف وتستلهم الدروس المفيدة والناصعة لترسيخ الولاء للوطن وقيادته. اختير خالد بن عبدالله لوزارة الأشغال العامة في أول تشكيل وزاري في قطر عام 1970 وقد شرف به المنصب، لكنه رغم ذلك لم يلق بالاً بما يضيفه المنصب الوزاري، وظل على بساطته المعهودة فيه وتواضعه الجم كما يشهد له بذلك كل من عرفه حتى أسموه الوزير الشعبي، وبالرغم مما لهذه الوزارة من طبيعة خاصة لها مشاكلها وعقدها، إلا أنه لم يجعل بينه وبين المواطنين من المراجعين وأصحاب الحاجات وما أكثرهم حجاباً، فازدحام مكتبه بالمراجعين من غير موعد رسمي يدل دلالة كبيرة على رقي هذا الإنسان ومعدنه الكريم في تعامله مع الناس ومن لم يجد فرصة للقائه في المكتب، فالمجلس العامر مفتوح لكل صاحب حاجة، وهي عادة كانت يمتاز بها الفقيد حتى قبل توليه الوزارة واستمرت في أثناء الوظيفة وبعد خروجه منها، وكنت عندما أزوره أشفق عليه من كثرة أصحاب الطلبات وأعجب من صبره وتحمله، حيث يستمع إلى الطلبات برحابة صدر وبشاشة وجه وكذلك الحال حين أسندت إليه في فترة من الفترات إلى جانب وزارته وزارة الشؤون البلدية فزادت الأعباء عليه، لكنه بما أوتي من حكمة الرأي ونفاذ البصيرة كان التوفيق حليفه فيما يهدف إليه، ومن أخلص عمله لله كان الله معه معيناً وميسراً.خالد بن عبدالله لم تمنعه أعباء الوظيفة الوزارية والتزاماتها من التفاعل مع إخوانه من أبناء وطنه والتواصل معهم وتفقد أحوالهم، وكانت وجهته في الكثير من الأحيان إلى السوق يفاجئ الأهالي في محلاتهم ويسلم عليهم ويتذكر معهم الماضي وما كان يحمله من عبق وما كان يتميز به أهل قطر من محبة وتضامن وتعاون في السراء والضراء منذ الأزل، وقد ساهم هذا كثيراً في تعميق الحب والتقدير لشخصه، وعندما خلا السوق من أصحابه بموت معظمهم الواحد تلوا الآخر، وذهبت ذات مرة لزيارته وسألني عن السوق ومن يرتاده الآن، فقلت له يا أبا عبدالله الجميع مشتاق لك ويترقبون مجيئك إليهم فأنت حين تأتي يفرح بك الجميع ويعتبرون مرورك عليهم شرفا كبيرا، فبادرني بالإجابة ولمن أدخل السوق الآن وقد خلا من أهله من الرجال الأوفياء المخلصين الذين طوتهم المنية وبقيت ذكراهم التي لا تغيب عن مخيلتنا ولم يبق فيه إلا القليل والكثير من الوافدين.خالد بن عبدالله كان له دور بارز في إصلاح ذات البين والتراضي بين الأهالي عند الخصام ما وجد إلى ذلك سبيلا حكى له رحمه الله مشكلة حدثت وقد سمعت بها، ولكني اطلعت منه على تفاصيلها، تجلت فيها حكمة هذا الرجل وكشفت عن معدنه الأصيل وصدق محبته لإخوانه، فقد روى لي أن أطفالاً من عائلتين قطريتين معروفتين يلعبون معاً وكانوا أصدقاء، ويبدو أنهم يصطادون في البر، فثارت رصاصة بطريق الخطا وأثناء اللعب في أحدهم، وأصابت زميله فأردته قتيلاً، ولما علمت بذلك – والكلام له – وخوفاً من استفحال الخلاف والرغبة في تطويقه وقطع الطريق على من يريد استغلال الحادث تحركت على الفور ومعي أخي المغفور له بإذن الله خليفة بن عبدالله، وكان رجلاً شهماً ومقداماً وصاحب مواقف عظيمة وذهبنا لحل المشكلة قبل أن يتدخل أحد وقبل وصولها إلى القضاء وانتهت برضا العائلتين والصلح بينهما وقمنا بإكرامهم بما يسره الله تطييباً للخاطر وهذا موقف عظيم يسجل لخالد بن عبدالله وشقيقه وينبئ عن مواقف كريمة لهذه العائلة القطرية العريقة.وهو في فعلته هذه إنما يجسد روح الإخاء والمحبة والمودة التي تجمع بين القطريين كأسرة واحدة، كذلك عندما علم من بعض معارفه أن رجلاً من أهالي قطر ممن عملوا في خدمة الحكام لفترة طويلة قد تضرر من جراء اقتطاع بيته في السبعينيات من القرن الماضي سارع فوراً إلى سمو الأب الشيخ خليفة بن حمد حفظه الله (أمير البلاد آنذاك) وشرح له الموضوع وذكره بمكانة هذا الرجل في قطر فعمل على إنصافه دون أن يعلم ذلك الرجل، وهذا لأنه اتخذ من منصبه وسيلة لخدمة مواطنيه وإيصال مطالبهم إلى المسؤولين.إن السيرة العطرة للفقيد كذلك تنبئ عن بصمات واضحة في المجالات الخيرية ابتغاء رضوان الله دون منّ ولا أذى، فمن مساجد كثيرة في بلدان متعددة إلى حفر آبار وإنشاء مراكز لتحفيظ القرآن الكريم وطباعة مصاحف وكتب دينية بغية نشر تعاليم الإسلام خصوصاً في المناطق النائية في مجاهيل بعض القارات، ناهيك عن تقديمه مساعدات مادية تعينهم على أداء رسالتهم وتبلسم جراح المحتاجين والبؤساء منهم.وكان رحمه الله يتميز بشخصية المسلم الوسطي المتسامح المتمسك بدينه وسنة نبيه، ومع ذلك لم ير بأساً في الانفتاح على باقي الديانات والمذاهب، معتبراً أن هذا ربما يؤدي بهم إلى الاقتناع بالإسلام والدخول فيه، ولهذا وجدنا مجلسه في عاليه في لبنان يغص بالعديد من الشخصيات من مختلف الديانات والمذاهب يحاورهم بالحسنى ويظهر لهم انفتاح الإسلام وسماحته.كنت شخصياً أسعد كما يسعد غيري حين أزوره رحمه الله في مجلسه العامر ونتبادل معه الحديث في التاريخ القطري ورجالات قطر ومواقفهم وما يمتازون به من صفات، وقد أذهلني ما تحمله ذاكرته من معلومات كثيرة، وأعترف بأنني ارتكبت خطأ في أنني لم أسجل منه ما حفلت به تلك الذاكرة وغاب عن ذهني تدوينها، خصوصاً وأنني من المهتمين بسبر أغوار تاريخ بلادنا، لأن مكتبتنا القطرية مازالت تعاني قصوراً في المؤلفات حول قطر، ولهذا السبب كنت أوصي الباحثين القطريين من طلبتنا حين يعدون رسائلهم للماجستير والدكتوراه ممن أشرف عليهم أو اشترك في مناقشاتهم أن يهتموا باللقاءات والمقابلات الشخصية مع الشخصيات التي لها باع طويل في الميدان وممن عاصروا الأحداث والوقائع وتتبعوا المسيرة أن يلجأوا إليهم لطلب المعلومات حتى يمكن تلافي القصور في المعلومات التي لم تدون في الملفات، وخالد بن عبدالله واحد ممن يشار إليهم بالبنان للحديث عن كل شيء وتكون مذكراته بمثابة مرجع يلجأ إليه الدارسون والباحثون ومن مداعباته اللطيفة معي أني كلما زرته في مجلسه أو التقيت به في مكان ما، يبادرني بالسؤال: يابو عبيدان ما هي أخبار الديمقراطية في العالم باعتباري أحد أعضاء لجنة إعداد الدستور القطري وبمثل ما نخوض معه في التاريخ نخوض في السياسة والعلاقات بين الدول، ووقفت بنفسي على شخصية تعرف كيف تحلل مجريات الأحداث، وكيف تتنبأ بما سيحصل، ودائماً نتفق في الرأي على أننا ولله الحمد نعيش في قطر ديمقراطية حقة لا تعرف التكلف ولا المظاهر، فحكامنا حفظهم الله يفتحون قلوبهم ومجالسهم لاستقبال المواطنين، فليس بينهم وبين الشعب حجاب ونتمتع بأسباب العيش الكريم في وضع نحسد عليه.وكان قلبه الكبير يمتلئ بالمحبة الصادقة، واتضح لي ذلك عندما كنت أتأخر عليه في الزيارة، فيقول للحاضرين: يا جماعة اشهدوا أن بيننا وبين العبيدان أخوة وعلاقة راسخة بناها الآباء والأجداد، واشهدوا إذا تأخروا علي في الزيارة وأنا أحبهم، فسوف أطلب معهم الاحتكام لشرع الله لمعرفة السبب والحكم عليهم، فأي مشاعر أعظم من هذه التي يحملها قلبه النقي الذي يفيض محبة وعطفاً وحناناً، قال لي العم سلطان بن يوسف العبيدان رحمه الله ذات مرة، يا ولدي إن خالد بن عبدالله يخجلنا في حبه لنا بأخلاقه وتواضعه وسؤاله ولا أدري كيف نرد له الجميل والواحد منا يريد فداءه بالروح وهو ابن الكريم، ولم تقتصر علاقات خالد بن عبدالله على محيط القطري فقط، وإنما تجاوزت الحدود، فارتبط بعلاقات صداقة حميمة مع حكام المنطقة ومع رؤساء الدول العربية والإسلامية، وقد روى لي شهود عيان كيف كانت منزلته عند هؤلاء وما يحظى به لديهم من إجلال وتقدير.هذا هو خالد بن عبدالله، وهذه أخلاقه ومناقبه ولا نزكي على الله أحدا، والحديث عنه يطول ويطول، لكن عزاءنا أن الفارس ترجل ليلحق بإخوانه القطريين البررة ممن سبقوه، يرحل ليترك في النفس حسرة وفي القلب لوعة في وقت نحن أشد ما نكون في حاجة إلى أمثاله حكمة ورأياً وستخلده أعماله العظيمة كما قال الشاعر:درب الخلود وإن أودى بصاحبهيبقى على الدهر ذكر الصيّد والصيدففقد "أبو عبدالله" رزء كبير، لكن عزاءنا أن سيرته ستظل ماثلة في الأذهان بما انطوت عليه من مثل وقيم ستذكرها الأجيال محفورة في الذاكرة.نعم خالد بن عبدالله نموذجاً للمؤمن الصالح الذي استوعب فلسفة الحياة فلم يعبأ بمظاهرها، ولم ينخدع بزخارفها فقدم لنفسه في حياته من الأعمال الصالحة والصدقات ما تنفعه في الحياة ويرجى ثوابها بعد الوفاة، فليهنأ فقيدنا الغالي بما أعد الله للصالحين من أمثاله، ولا نزكي على الله أحداً، وكل امرئ في ظل صدقته يوم القيامة.وبعد فإن الموت هو النهاية ولن يفر منه أحد والآجال مكتوبة ومحدودة، ولكل أجل كتاب، ولن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها، وكما قال الشاعر:نهاية العيش موت سوف ندركهفنحن من ذين في رسل وفي وخدعمر الحياة مسافات محددةوالعمر للقيم المثلى إلى الأبدنحسب أن خالد بن عبدالله قد طيب الله له الموت، فأحب لقاء الله، فأحب الله لقاءه، ولله ما أخذ وأعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى، ونسأل الله أن يجبر مصيبتنا جميعاً ويعوضنا في فقده خيراً وإنا لفراقك يا أبا عبدالله لمحزونون.ولا يسعني وقد نفذت مشيئة الله إلا أن ندعو الله أن يرفع مقامه ويضاعف حسناته ويجزيه خير الجزاء على ما قدم لدينه ووطنه وإخوانه، وأن يجعل الموت راحة له من كل شر وأن يجمعنا به في واسع جنانه.ونتوجه بصادق العزاء والمواساة لإخوانه وأنجاله وكافة العائلة الكريمة في فقيدنا جميعاً سائلين الله أن يحفظهم من كل سوء ولا مكروه."إنا لله وإنا إليه راجعون".