08 نوفمبر 2025
تسجيلتبدو الأمور واضحة ومحددة في ميادين العلوم البحتة، فلا أحد يمكنه أن يختلف مع الآخرين حول 1+1=2 أما في الفنون والآداب فإن الأمور لا تكون واضحة ومحددة بشكل قاطع ودقيق، وعلى سبيل المثال فإن الشعراء يختلفون فيما بينهم حول رسالة الشعر ومهمة الشاعر، حيث تتفاوت الآراء ووجهات النظر بشأن ما ينبغي على الشاعر أن يفعله تجاه قضايا العصر الذي يحيا في إطاره، وهل يجب عليه أن ينغمس في الأحداث السياسية التي تحدث في زمانه، أمأن عليه أن ينأى بنفسه وبشعره عنها حتى لا تتقاذفه أمواج السياسة؟ وحين نتوقف أمام الشاعر الإنجليزي ستيفن سبندر فإننا نراه يؤكد أن الشعر العظيم هو الذي يتأمل العالم والإنسان وقوانينه وأديانه، لكي يتساءل: لماذا تجري الأمور على هذا النحو، بينما كان من الممكن أن تجري على نحو آخر؟ ويقرر ستيفن سبندر– في كتابه الممتع والجميل: الحياة والشاعر- أن رجال الفكر اليساريين كان من واجبهم أن يسألوا الأسئلة بدلاً من أن يقرروا القضايا السياسية، فليست الرغبة في تقرير نظرية من النظريات هي القوة المحررة التي تدفع الكتاب إلى كتابة شعرهم وقصصهم، وإنما الذي يدفعهم إلى ذلك رغبتهم في معرفة طبيعة الحياة وغايتها. وقد قرر الشاعر الإنجليزي هذا الذي قرره بعد أن انفصل عن اليساريين انفصالاً مدوياً تجلى واضحاً في كتاب الإله الذي هوى الذي أصدره بالاشتراك مع بعض الشخصيات الأدبية الأخرى، ولذا فإننا نجده يحاول بصورة جلية أن يبعد الكتاب والفنانين عن خضم السياسة، بحجة أن رغبتهم في معرفة طبيعة الحياة وغايتها هي التي تدفعهم إلى الكتابة فحسب. وفي تصوري أن هذا الدافع لا يتحقق من خلاله إلا طغيان التأملات الميتافيزيقية التجريدية على عالم الشعر، وليست مهمة الشاعر – في هذا العصر بالذات – أن يتأمل العالم تأملاً ميتافيزيقياً مجرداً، دون أن ينطلق إلى هذا التأمل من الأرض الصلبة التي يقف عليها، بكل ما تحمله هذه الأرض من قضايا سياسية واجتماعية. وإلا جاءت تأملات مثل هذا الشاعر تأملات هشة وساذجة. وعلى هذا فإنه من المفيد للشاعر حقاً – في رأيي – أن يتسلح في هذا العصر بأيديولوجية يتبناها عقيدة له، ويبرزها في فنه بصورة ناضجة بالطبع، فهذا التبني لأيديولوجية معينة أياً كانت نوعيتها يعين الشاعر – بلا شك – في استنباط الحلول التي يرتضيها للمشكلات المختلفة التي يواجهها، فضلاً عن أن هذا التبني يعمق رؤيته للواقع، وهذا لا يعني بالضرورة أنه ينبغي على الشاعر أن يكون عبداً لما اعتنق، فقد يضيف بفكره الثاقب عناصر جديدة إلى الأيديولوجية التي يتسلح بها، وقد يحذف منها عناصر منبثقة منها لكنه لا يرتضيها وإن كان هذا يتوقف – أساساً – على مقدرته وإمكانياته الفكرية والفنية التي تتيحها له موهبته وتغذيها دراسته. فشواهد الحال تثبت أن الشعراء الذين لا يتمتعون بمواهب فنية أصيلة هم الذين نجدهم ملتزمين التزاماً حرفياً بتعاليم الأيديولوجيات التي يعتنقونها، لأن هؤلاء الشعراء لا يعانون من الصراعات الداخلية العميقة التي تعتمل في أعماق سواهم من الشعراء المتألقين بين متطلبات الفن، وتعاليم الأيديولوجية. والحق أنه لكي يكون هذا الحل جديداً ومبتكراً، فإننا نفترض – منذ البداية – أن يكون الشاعر على درجة كبيرة من الأصالة الفنية والصدق مع الذات فضلاً عن الاحتكاك الحي والعميق بالواقع، لأن هذا يدفعه أولاً إلى أن يتخلص من تأثير الشعراء الذين كانوا يروون تعطشه الروحي في فجر حياته الفنية حين كان يدور في نطاق جاذبيتهم مقتنعاً بما قدموه من حلول ترضيهم – هم دون غيرهم- وتحقق لهم التوافق والتكامل. وحين يستطيع الشاعر أن يتخلص من هذا التأثير، فإنه يتمرد على عوالم هؤلاء الشعراء، ثم يخوض بعد ذلك – خلال تطوره الدائم فنياً وفكرياً– سلسلة من الصراعات الشاقة مع قيم مجتمعه، فيرفض منها ما يرفض،ويقبل ما يقبل محاولاً بذلك أن يشكل لنفسه ملامح عالمها الخاص المتميز.