13 سبتمبر 2025

تسجيل

الأزمة الاقتصادية وتداعياتها الاجتماعية

12 فبراير 2012

عادة ما تكون للتغيرات الاقتصادية انعكاسات اجتماعية وبنيوية تطال فئات مؤثرة في المجتمع وتمس مستوياتهم المعيشية ومتطلباتهم الأساسية، يحدث ذلك أثناء الركود والأزمات الاقتصادية والتي يتم العمل للتقليل من تأثيراتها السلبية، سواء من قبل الحكومات ومن قبل الأفراد ذاتهم. وما حدث من انعكاسات اجتماعية للأزمة المالية التي ضربت العالم في السنوات الثلاث الماضية وما زالت تداعياتها تتوالى أدى إلى تدني المستويات المعيشية لمعظم سكان العالم، وبالأخص في البلدان الفقيرة، إلا أن شدة هذه التأثيرات وانعكاساتها تفاوتت بين بلد وآخر، وذلك وفقا للقدرات المالية لكل بلد ولتركيبته الديمغرافية. وفي العالم العربي، فإن هذه التغيرات والانعكاسات السلبية كان لها إلى جانب تراكمات أخرى دور رئيسي في الأحداث التي شهدتها العديد من البلدان العربية في العالم الماضي وبداية هذا العام، في الوقت الذي استطاعت بلدان عربية أخرى استخدام قدراتها المالية المتنامية في محاصرة هذه التأثيرات والتقليل من تداعياتها. وفي هذا الشأن الخاص بالتأثيرات الاجتماعية للأزمة، فإن البلدان العربية تنقسم إلى مجموعتين، الأولى فقيرة نسبيا، كتونس واليمن أو أن أنظمتها الاقتصادية لا تلبي احتياجات مواطنيها، وذلك رغم غنائها الفاحش، كالعراق وليبيا. أما المجموعة الأخرى، فإنها ممثلة في دول مجلس التعاون الخليجي والتي تتمتع بمستويات معيشية مرتفعة وتوفر خدمات جيدة بشكل عام لمواطنيها، إلا أنها رغم ذلك تأثرت من جراء الأزمة وخسر المستثمرون، وبالأخص الصغار منهم معظم مدخراتهم بسبب انهيار أسواق المال والتي تشكل قنوات استثمار رئيسية في هذه البلدان. وشملت هذه التأثيرات الطبقة الوسطى في المجتمع بشكل خاص والتي تشكل لبنية المجتمعات الزئبق الذي يؤشر للتوازن بين طرفي أجهزة المقاييس، فالخلل الذي يصيب هذه الفئة عادة ما تكون له تداعيات مؤثرة وعميقة. ونتيجة لظروف الأزمة تقلصت الفئة الوسطى في المجتمعات الخليجية، حيث خسر صغار المستثمرين نسبة تتراوح ما بين 70 – %90 من إجمالي استثماراتهم في أسواق المال الخليجية، وذلك بعد أن تدنت أسعار بعض الشركات إلى ما دون سعر الاكتتاب بنسبة %80، أما المستثمرون الذين قاموا بشراء أسهمهم بعد عمليات الاكتتابات الأولية، فإن خسائرهم كانت مضاعفة. وحتى الآن لا توجد مبررات منطقية لما تعرضت له البورصات الخليجية في السنوات الثلاث الماضية، إلا أن ما تم من ارتفاعات ومضاربات في فترة ما قبل الأزمة وما تلاه من انخفاضات في فترة ما بعد الأزمة يعبر وبصورة صارخة عن عدم نضوج هذه الأسواق. ومع أن الإجراءات الحكومية التي اتخذت، وبالأخص زيادة الأجور والرواتب على دفعات قد عوضت شريحة معينة من الفئة الوسطى، أي تلك العاملة في المؤسسات العامة، إلا أن بقية شرائح هذه الفئة من صغار المستثمرين، فإنها ما زالت تعاني من تدهور عائدات استثماراتها والتي تشكل نسبة كبيرة من إجمالي دخلها السنوي. ويشير ذلك إلى ضرورة إعادة التوازن للفئة الوسطى في المجتمع، فاستقرارها يعتبر مسألة في غاية الأهمية لاستقرار المجتمع، حيث كان يتوقع على نطاق واسع أن تؤدي الارتفاعات المستمرة لأسعار النفط ومعدلات النمو المرتفعة إلى نمو أعداد الفئة الوسطى في المجتمعات الخليجية، وبالتالي زيادة دورها الإيجابي في استقرار هذه المجتمعات. - 2 - وترجع هذه التوقعات إلى الشبه الكبير بين الأوضاع الاقتصادية في دول المجلس والأوضاع الاقتصادية الجيدة للبلدان الصاعدة والتي نمت فيها الطبقة الوسطى بصورة لافتة للنظر في السنوات القليلة الماضية، كالصين والبرازيل والهند، إلا أن ما حدث هو العكس بسبب تدهور قيمة الأصول التي تمتلكها الفئة الوسطى الخليجية. وإذا ما أخذنا بعض بلدان أمريكا اللاتينية والتي تضم بلدانا من بينها بلدان صاعدة وأخرى نفطية، فإنه ووفقا للجنة الاقتصادية لأمريكا اللاتينية والكاريبي التابعة للأمم المتحدة، فإن 56 مليون عائلة انضمت إلى الطبقة الوسطى في أمريكا اللاتينية خلال فترة العقد ونصف العقد الماضي، مما يعكس الأوضاع الاقتصادية الجيدة والنمو المتسارع لاقتصادات هذه البلدان. والحال، فإن تدني حجم وتأثيرات الطبقة الوسطى في المجتمعات الخليجية ليس له ما يبرره ولا يعكس طبيعة النمو السريع الذي تحققه الاقتصادات الخليجية، مما يتطلب دراسة هذه الظاهرة غير الطبيعية ومعالجتها، وذلك لما لها من تأثيرات مهمة على مجمل الأوضاع. والحقيقة أن دول المجلس تملك الأدوات والقدرات المالية التي تؤهلها لمعالجة هذه الظاهرة، إذ ليس المطلوب العمل باتجاه فقاعة أخرى في البورصات أو أسواق الأصول الأخرى في دول المجلس، وإنما العمل على تنظيم هذه الأسواق ووصولها إلى حالة من التوازن التي تعكس العائد الاقتصادي الحقيقي للمستثمرين والذي يعبر عن الأداء الفعلي للشركات المدرجة والتي تدنت أسعار بعضها بصورة مخيفة. ويبدو أن بوادر مثل هذا التوجه برزت مؤخرا في دولة قطر من خلال الاستثمار المؤسسي المدعوم من الدولة للاستثمار في أسواق الأسهم المحلية والذي أدى إلى الاستحواذ على جزء مهم من أسهم البنوك التي تحقق عوائد مجزية وأداء جيدا، مما أعاد لسوق الدوحة للأوراق المالية جزءا من رونقها واستعادت جزءا من الثقة التي افتقدتها، إذ أسهم ذلك في إعادة التوازن للطبقة الوسطى في المجتمع، مما يعني المزيد من الاستقرار والنمو للأوضاع في قطر. - 3 - وكدليل على ذلك، فإن سوق الدوحة للأوراق المالية كانت السوق الوحيدة التي حققت ارتفاعا في العام الماضي 2011 من بين سبع أسواق خليجية حققت نموا سلبيا وبنسب كبيرة ومؤلمة للمستثمرين، وذلك ليس بسبب الأداء السيئ للشركات المدرجة، وإنما بسبب فقدان الثقة والمضاربات وغياب الاستثمار المؤسسي. وإذا كان توجه الاستثمار المؤسسي للأسواق الخارجية يعتبر توجها إستراتيجيا مهما يهدف إلى التنوع، فإن الاستثمار المؤسسي الداخلي لا بد وأن يكون ضمن الأولويات الاستثمارية الإستراتيجية أيضا، وذلك لما يمثله من أهمية قصوى للنمو وللاستقرار المجتمعي، وبالأخص استقرار مختلف فئات المجتمع، بما فيها الفئة الوسطى التي تعبر عن التوازن وتساهم بصورة فعالة في تطور المجتمع وتقدمه، باعتبارها أكثر الفئات تعلما واكتسابا للمهن وللتقنيات الحديثة.