16 سبتمبر 2025

تسجيل

قدر الإسلام أن يتعايش مع الأديان الأخرى

12 يناير 2016

السبت و الأحد 9 و 10 يناير الجاري فتحت مساجد فرنسا و عددها 2500 أبوابها لكل الزوار من مختلف الأديان ليتحاور المؤمنون معهم حول حقيقة الدين الحنيف الغني بتراث أدب الاختلاف و السلام والتسامح و التعايش. و قد حضرت بعض هذه اللقاءات المنعشة و اكتشفت أن التجاهل المتبادل بدأ يتقلص لتسود مناخات المودة و تبادل الحقائق حول الإسلام بعد اعتداءات إرهابية هزت فرنسا.كلما ازداد الواقع العربي الإسلامي عتمة و كلما ازداد الإرهاب عنفا و كلما تحالفت القوى الكبرى و الإقليمية لصب الزيت على النار استنجدت بذاكرتي بحثا عن أفكار نيرة لعلنا غفلنا عن توظيفها لإنارة الدرب أمام أجيالنا فمرت مرور الأشياء المنسية و من هذه الأفكار ما نطق به أحد أبرز علمائنا الوسطيين منذ عقد من الزمن حول أسبقية صيانة الحريات و الحقوق على تطبيق الشريعة ولم تأخذ فتواه حظها من الحوار الثري الدائر في عالمنا العربي؟ أعجب من هذا الصمم الذي يجعلنا لا نعير اهتماما للأفكار الحية الجريئة التي تحرك العالم وتطور المجتمعات و تنير الطرقات و تجدد الدين كما وعد الرسول الكريم (صلعم)، خاصة و أن ما اجتهد فيه مجتهدون معتدلون أثناء مؤتمرات حوار بين الأديان الثلاثة انعقدت في قطر و سينظم مثلها بعد أيام بالدوحة من قبل مركز قطر لحوار الأديان الذي يرأسه الزميل الفاضل د. إبراهيم النعيمي و في مسقط سنويا حول تحالف الحضارات حيث تعتبر أشغالها و حواراتها مرجعا فكريا للأمة الإسلامية و منارة حضارية لنهضتها من كبوة التخلف و التبعية و الفتنة بتوضيح مناهج احترام الاختلاف و إدارة التنوع لدى المسلمين و فتح قنوات الاتصال والتعاون بينهم و بين المؤمنين في الأديان الأخرى. و أتذكر ما كان أعلن في مؤتمر العلماء المسلمين المنعقد في الاتحاد الأوروبي ، حين صدع المؤتمرون برأي غاية في الأهمية ، يعتبر ثورة حقيقية في الفكر الإسلامي المستنير، وهو تقديم مبدأ إقرار الحريات والديمقراطية في المجتمعات المسلمة على مبدأ تطبيق الشريعة. وهو رأي فصل راعى فيه علماؤنا مقاصد الشريعة و التحولات التاريخية الكبرى التي طرأت على العالم منذ الهزيع الأخير من القرن العشرين. و عادت بي الذاكرة إلى السنوات التي قضيتها في الدوحة وأكرمني الله سبحانه فيها برفقة نخبة من علماء السنة من مختلف البلدان الإسلامية تذكرت الأحاديث المنعشة في الاجتماعات العديدة التي جمعتني بهم على مدى حول كامل لإنشاء أول موقع إسلامي كبير على شبكة الإنترنت وهو موقع (إسلام أون لاين)، و ما كان يدور بيننا من حوار حول أسبقية إقرار الحريات و صيانة حقوق الإنسان والعمل بالآليات الديمقراطية على مجرد رفع شعار الإسلام من أجل بلوغ السلطة ثم الانقلاب على كل القيم و في مقدمتها قيمة الحرية باسم الإسلام و الإسلام من ذلك براء. و أذكر أنني في يوم من الأيام سألت الزملاء :" أعتقد و الله أعلم بأن القرآن إذا ما جعله البعض دستورا فهو ربما يجيز به بعض الطغاة طغيانهم ، والأرشد للأمة أن تتخذ لنفسها دساتير من وضع الناس تحدد الحقوق و تعين الواجبات و تنظم علاقات الشعوب بدولها" فقال لي الجمع :" إن القرآن هو دستور الدساتير و لا ينفيها بل في محكم آياته يدعو إلى إقرارها حفظا للمجتمع من الاستبداد والشطط و الارتجال و الظلم".و حين أذكر هذا الرأي أستنتج أننا على أبواب ثورة فكرية حقيقية مباركة في العقل الإسلامي و أننا بصدد قطع شوط مهم على درب العودة لدورة التاريخ لا كأمساخ ذليلة للأمم القوية المهيمنة بل كأصحاب حضارة عريقة مجيدة متجددة أثبتت أنها قادرة على إنجاب العبقريات و إنتاج المعرفة و تحريك السواكن. و أنا لا أتردد في القول بأن الثورة الشاملة التي تنتظر المسلمين هي ثورة العقل على التبعية والجمود و الغلو و الجهل و الاستبداد بكل أشكاله و الهرب من الواقع المرير إلى الوهم الأمر منه، لا الثورات المزيفة التي نرفعها شعارات منفصلة عن الواقع وعن تحولات العالم و تطور الإنسان، فنعلنها تمردات عشواء على كل من يخالفنا في الرأي أو الدين أو المذهب أو العقيدة أو الانتماء و نقدم للمتربصين بنا وهم كثر ذرائع سهلة لمعاداتنا و تأليب العالم ضدنا و عزلنا في المجتمع الدولي. لكن حين تأتي الحكمة من أكثر علمائنا وسطية و تسامحا لإعلان رأي كهذا علينا أن نتابع ما انقطع من حوار و نعيد ما انفرط من تواصل بين ذوي النوايا الخالصة من النخبة المثقفة و الحاملة لهموم الأمة، حول ضرورة الإصلاح و اتباع مناهج الحكم الراشد ، لأن تحقيق ذلك المبدأ يفتح باب الاجتهاد المطلوب في شؤون الدنيا والدين و يعيدنا إلى الانخراط الذكي و الحي في دورة الحضارة الحديثة بدون أن نفقد هويتنا و مقومات أصالتنا. و إني واثق من أن جيل المجتهدين المسلمين سيعمق البحث الحكيم بالاستقصاء و التفسير و التيسير، و سبق أن صدع علماؤنا بآراء لا تقل جرأة حول الحوار الإسلامي المسيحي و الحوار الإسلامي اليهودي و سبق أن وقفنا معا منددين بالإرهاب الأعمى كلما ما أصاب الأبرياء مثلما حدث في فرنسا خلال العام المنقضي فكان المسلمون الأبرياء المقيمون في دول الغرب أول الضحايا. و تعقدت أوضاعنا نحن الذين نعيش في مجتمعات الغرب مسالمين محترمين لقوانين تلك الدول بعد أن اضطرتنا ظروف مختلفة على الهجرة منذ عقود لنستقر بين جيراننا المسيحيين و اليهود و البوذيين و الهندوس في كنف التعايش و الأخوة في الإنسانية تلك الرابطة القوية التي توثق الصلة بين البشر على أسس التنوع والاختلاف و التسامح و التكافل أي في الحقيقة على القاعدة القرأنية الخالدة التي جاءت في كتاب الله المجيد (الحجرات الأية 13) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ.