16 سبتمبر 2025
تسجيلفي بداية القرن الماضي عندما فكر الغرب في استعمار الشرق العربي على وجه الخصوص، أول ما فكر فيه، هو زرع التقسيم المذهبي والطائفي، والتركيز على هذا مبدأ، وتعميق الخلافات الفرعية بين المسلمين من خلال مذاهبهم، وتقصي الاثنيات فيه ،وتاريخها واتجاهاتها المختلفة بهدف الغوص في أعماق هذه الثقافات والحضارات، كانت استراتيجية الاستعمار في ذلك وسائل شتى منها، لكن نحن المسلمين ساهمنا أيضا في هذه الخلافات للأسف، لأننا نعتقد أن الخلاف دين؟ لكنه تدمير وانتحار للأمة وتراجع على كل المستويات، بل وربما أكثر مما أراده الاستعمار، عندما أراد أن يفرق الأمة إلى طوائف وجماعات، وكأننا نريد أن نفعل ما يفعله الآن، وسيكون جميعنا هو الخاسر لأننا كلنا باقون، ولا بد من العيش مع في النهاية!! ويقول د. محمد عابد الجابري ما يقوم على مبدأ "يجب إخضاع النفوس بعد.. إخضاع الأبدان": إخضاع الأبدان يتم بالمدفع ، أما إخضاع النفوس فسلاحه التعليم والثقافة. ولم يكن من الممكن في ذلك الوقت الدخول في عملية إخضاع النفوس من دون المرور أولاً بمرحلة الدفع (إخضاع الأبدان). لم يكن "الاتصال" ممكنا إلا بعد احتلال الأرض شبرا شبرا والإمساك بالسكان قهرا لتبليغ "الرسالة" إليهم، إما في السوق وإما في المدارس. نعم، لقد سبق "الاستشراق" المدفع، ومعه البعثات التبشيرية وغيرها، ولكن مهمته لم تكن تتجاوز الاستكشاف لتمهيد الطريق لـ "المدفع". أما إخضاع النفوس فهو يستلزم الاتصال المباشر والواسع الذي يمهد له "المدفع" ويحميه .ومن ضمن الأهداف التي يراها فاعلة لتقوية هيمنته وسيطرته واستمرار احتلاله استعمال الورقة الرائجة التي استعملها مع احتلاله، وهي (فرّق تسد) حيث عمل على وتر الاختلافات وتناقضاتها للعب على أوتارها، والاهتمام بالتمايز بين الشعوب لتأليب الاثنيات والمذهبيات وحتى الديانات على بعضها البعض بهدف استمرار احتلاله البغيض. وكانت المنطلقات الاستعمارية هي أن استغلال الخلافات الطائفية والمذهبية عموما، والضرب على وترها الحساس التي من شأنها خلخلة البنى الاجتماعية والثقافية لهذه المجتمعات العربية، وتقسيم وحدتها وتمزيق الروابط القائمة التي تجعل شبكة هذه العلاقات لا تقف في وجه مخططاته وهيمنته، لأن تماسك هذه الروابط معناها وحدتهم واتفاقهم في القضايا القومية والوطنية . وهذا ما تحقق فعلا في ثورة العشرين في العراق والثورات المتعاقبة في مصر ضد الاحتلال الإنجليزي، والمغرب العربي ضد الاحتلال الفرنسي.. إلخ . والاحتلال عندما يحاول أن يبث نوازع التفرقة والاختلاف الإثني والعرقي والمذهبي في البلاد العربية. فإنه يطرح هذه الأفكار ويشجعها تحت مقولات جذابة كالديمقراطية والتعددية "والتنوع لكن في إطار الفرقة والتشتت" وليس في إطار الوحدة، وهو ما جعله الإسلام منطلقا لكل الأقوام التي دخلت فيه، وحملت معها تقاليدها وتعددها ثقافاتها، لكن ضمن إطار الجامع الديني أو القومي أو الوطني وليس ضدهما أو في مواجهتهما.فالذي يجري الآن في كثير من بقاع عالمنا العربي تجاه مسألة الإثنيات أو الأقليات هو اهتمام غربي غير عادي ونزوغ بعض القوى الغربية على تشجيع هذه الإثنيات حتى على التمرد والاستقلال عن الكيان القائم تحت شعار حقوق هذه الإثنيات أو حقها في التعدد والتمايز عن بقية القوى الأخرى التي تشكل الغالبية في هذا الوطن أو عملية طرح تصورات أخرى هى اقرب للانفصال عن الوضع القائم ـ كالعراق مثلا وإقامة كيانات مستقلة ـ كالفيدرالية أو الكونفدرالية أو غيرها من التصورات التي تتجه إلى التفتيت إلى كونتونات صغيرة قابلة للتمزق والفوضى والصراعات أو الحرب الأهلية المدمرة.فالعراق على سبيل المثال يواجه ما يشبه مقدمات الحرب الأهلية الآن وتدور شبه حرب أهلية في العيد من المدن العراقية بين قوات رئيس الوزراء المالكي وبعض السياسيين والعشائر، بسبب ما أرساه الاحتلال من قوانين ولوائح للتفريق بين الشعب العراقي بسبب المذهب على وجه الخصوص، لأنه الذي سيؤجل احتلاله طويلا، وتعميق هذا الخلاف سيقلل من مقاومته وإرباك المشهد السياسي بتأييد فصيل سياسي حتى يتعمق الخلاف، وتزداد الصراعات، وتحقق له ذلك، حتى أكثر مما يتوقع!! وهذا كان بالفعل مقدمة لتفكيك العراق إلى كيانات وكانتونات صغيرة متناحرة لأسباب إثنية وعرقية ومذهبية، وهدفها تدمير المجتمع ونسيجه القائم إلى كيانات هامشية متناحرة وتقوم باسمه دولة جديدة مسيّرة لا تملك من الأمر شيئاً ـ وباسم هذه الدولة أيضاً يتشرعن وجودها التفكيكي، ففي التساؤلات تلك ـ كما يشير عبد الإله بلقزيز ـ " بيان صريح لعملية التفكيك الإثنوغرافي الذي تقوم به السياسة الكونونيالية لهذا المجتمع العراقي. وهو تفكيك ينصرف إلى تمزيق نسيج هذا المجتمع، وقطع كل آصرة تشد بين أفراده وجماعات، والعودة بالبنية الاجتماعية العراقية من بنية المجتمع الوطني الموحّد إلى البنية العصبوية، حيث لا يتعرف فيها العراقيون على أنفسهم من حيث تقوم بينهم رابطة توحيدية تصنع منهم شعباً، بل من حيث هم إثنيات (عرب، كرد، تركمان)، وطوائف (مسلمون، مسيحيون)، ومذاهب (شيعة، سنة، أرثوذوكس، كلدان كاثوليك)، وقبائل وعشائر وبطون وأفخاذ... إلخ!