11 سبتمبر 2025
تسجيلوسط انشغال الحكومات العربية والخليجية بشؤونها العامة وعلاقاتها الخارجية فإنها تغفل أو تتغافل ما يحدث في الداخل من مشكلات اجتماعية وأزمات ثقافية ومعضلات اقتصادية يعاني منها الناس وتتحمّلها الشعوب دون حكوماتها أو بالتحديد تتحمّلها أغلب فئات الشعب في المجتمع باستثناء الطبقة المخمليّة فيه التي تقترب من دائرة الحكم وصنع القرار أو طبقة التجّار والأثرياء الذين جاوزوا حد الغنى إلى الفحش في الثراء لأمرين اثنين في الغالب، إما لكونهم ممن ينافقون ويمدحون السلطة أو الحاكم بأقوالهم وأفعالهم وأموالهم، ليلاً ونهارا وسرّاً وجهارا، وإما لكون السلطة أو الحاكم يريد أن يعزّز بقاءه لأطول فترة ممكنة من خلال شراء الذمم والضمائر وتكوين صفوف من الطابور الخامس المدافع دائماً وأبداً عن أي قرار تتخذه الحكومات وأي قانون تضعه السلطات، ولهذا فهم – أي الأثرياء – في الغالب من الذين حققوا مكاسب ما كانوا ليحصلوا عليها لولا رضا السلطة عنهم ولولا غض الطرف عنهم حال اختراقهم للقانون ولولا الاستثناءات التي منحتها لهم السلطة أو الحاكم وفي الوقت نفسه ما كان للسلطة أو الحاكم أن يحقق ذلك الهدوء العام في المطالب والحقوق من قبل الشعوب لولا جهود هذه الفئة في وأد كل محاولة للمطالبة بالمزيد من المطالب، لأن مطالبهم – أي الشعب – تعني تقليص مساحة نفوذ ومعدّل ربح طبقة التجار والأثرياء، ناهيك عن دورهم في تلميع صورة السلطة دائماً وأبداً في أحاديثهم وتصريحاتهم، بل وأثناء مخالطتهم لعموم الناس، هذا إن خالطوهم أصلاً، ليشعر الناس عندها أن (العيب فيهم) لا في الحالة الاقتصادية أو الوضع الاقتصادي الذي تسببت السلطة في تكوينه وتشكيله وأسهمت بشكل مباشر وغير مباشر فيه، ليعود المواطن البسيط إلى نفسه يجرّ أذيال الخيبة ويلوم نفسه أحياناً، لأنه ولد في طبقة كادحة أو متوسطة، بل ويتعدّى الأمر في أن يلوم والديه لأنهما أنجباه في هذه الطبقة، حتى يقتنع هو وأبناؤه وأحفاده من بعده – بعد أن تزداد فجوة الطبقية بين الأغنياء والفقراء – بأن هذا الأمر عائد إلى الصفات الوراثية أكثر منه إلى الفرص والإمكانات المتاحة والتي في الغالب توجدها السلطة، بل وتتحكم فيها، جملة وتفصيلا.إن من يفترش الأرض ليبيع مجموعة من البضائع زهيدة الثمن – كحال أغلب الباعة المتجوّلين في كل دول العالم – إنما يمارس حقّه الطبيعي في تحسين حالته المادية وبالتالي تعديل وضعه الاجتماعي، وهو بذلك يمارس حقاً لا تملك السلطة أن تمنعه منه إلا إذا تجاوزت السلطة حدود الحرية إلى القمع وانتهاك الحقوق، فهذا شيء آخر، أمّا إذا مارست السلطة دورها الطبيعي المتمثل في المراقبة وحفظ الحقوق، فهذا شيء طبيعي وضروري ومهم لحفظ الحقوق، كما أسلفنا وللحفاظ على اقتصاد قوي جاذب للاستثمار الأجنبي، رغم التحفّظ على هذا المصطلح قليلاً إذا ما قابله – على النقيض تماماً - طرد المستثمر المحلي ابتداءً أو إحلاله بالأجنبي أو تفضيله بمعنى آخر (عين عذاري.. تسقي البعيد ولا تسقي القريب).نعم قد نعذر السلطات إذا ما منعت الباعة المتجوّلين أو أصحاب الدكاكين والمحلات الصغيرة من بيع بعض (الماركات) مثلاً بحجة أن وكيلها والمرخّص لها قد دفع مبلغاً من المال في مقابل اختصاصه ببيع تلك (الماركة) رغم تحفّظي كذلك على تجارة الماركات أساساً، ناهيك عن رواجها والترويج لها، فقد نعذر من وضع القوانين بأنه بذلك يحمي حق التاجر الكبير من أن (ينافسه) التاجر أو البائع المتجوّل و(يخرب بيته!) أو بالأحرى يخرب قصره أو قصوره الفخمة، نعم قد نفهم أن الحكومات أو السلطات لا تريد خراب قصور التجّار، ولكننا لا نفهم لماذا تمنع السلطات أو الحكومات في دول العالم الثالث أو العربي، مواطناً أو بائعاً متجوّلاً، يبيع بضاعة بسيطة أو يبيع مأكولات ومشروبات بسيطة لا (ماركة فيها ولا علامة تجارية)، فهذا إنما يندرج تحت باب تأصيل الاحتكار وقمع الحريّات، لا تفسير له غير ذلك.إن السلطة التي بإمكانها أن تتحكم في محصول مزارع وتمنعه من أن يبيع بعض الخضراوات والفواكه على قارعة الطريق أو بجانب مزرعته، رغم أنه يملكها ويملك المحصول كلّه، بحجة أنه لا يملك ترخيصا مثلاً، هي ذاتها التي أعطت آخرين حزمة أوراق تسمى (تصاريح) تؤهلهم للبيع في مكان يسمّى (السوق) أو (ساحة المزاد) رغم أنهم (لا يملكون مزارع ولا محاصيل)، ولكنهم بذلك الحق الممنوح لهم من قبل السلطة أصبحوا يتحكمون في مصير الآخرين، فأصبح من لا يملك يتحكّم في مستقبل من يملك، ومن لا يملك أرضاً أو محصولاً أصبح أقل دخلاً وأبخس أجراً ممن يملك مجموعة أوراق وتصاريح رسمية موهوبة له من السلطة، حتى إذا اعترض المزارع على ذلك الأجر المفروض عليه لا يستطيع بيع محصوله في مكان آخر وإلّا كان التلف مصير محصوله.وهكذا الأمر يتكرر في شتّى مجالات التجارة والصناعة، فمن بيده سلطة ممنوحة يستطيع أن يأكل حقوق الناس بمباركة من السلطات وبتأييد منها، بل إن سكوتها عن ذلك يعني مباركتها وموافقتها (بخلاف ما ينشره العامّة بكل سذاجة أن رأس السلطة لا يعلم بذلك، لأنه لو علم بتلك التجاوزات لأوقفها)، غير أن الواقع يقول عكس ذلك، فلا شيء يخفى على السلطات في العالم الثالث، إن خافت على أمنها حرّكت جيوش استخباراتها لمعرفة كل صغيرة وكبيرة، فلماذا لا تفعل الشيء نفسه في شؤون العامة، ودفاعاً عن حقوقهم.إنها العولمة التي جعلت الدول الغنيّة تتحكم بموارد الدول الفقيرة دون أن تملك فيها شيئاً، فالدول الكبرى تحكّمت بقوانينها وسلطاتها في محاصيل آسيا وإفريقيا، رغم أنها لا تملك فيها شيئاً، وإنما تحكّمت بالقانون الجائر وبالقوّة العسكرية التي تدخّلت عنوة بحجّة المساهمة في استقرار تلك الدول، بينما هي في واقع الأمر لحماية مصالحها ولتهديد أمنها. وهكذا فعلت دول العالم العربي عندما لم (تتشطّر) على الدول الكبرى أو دول الغرب ولكنها استعرضت عضلاتها على شعوبها وبالأخص على أهل الحقوق والضعفاء المساكين منهم، فوهبت السلطات لمن لا يستحقون لا للحفاظ على اقتصادها كما يزعمون، وإنما للحفاظ على كراسي الحكّام ومن يحمونهم ويدافعون عنهم – العساكر والإعلاميون والتجاّر والأثرياء – وبما أن الظلم ظلمات ودعوة المظلوم مجابة ولو بعد حين، لذلك تجد أن معظم مشاريع وموازنات تلك الدول الظالمة والقاهرة لشعوبها تتعطّل وتتأخر وتتعرض للسرقات وللنهب من قبل المقاولين المنفّذين لها، ناهيك عن فشلها وتجاوزها لمدة تنفيذها وميزانياتها الأولية، بالإضافة إلى سرعة خرابها وكثرة صيانتها.. ناهيك عن انتزاع أراضي الناس بحجة إقامة مشروعات عليها للمنفعة العامة، بينما يترك أصحابها ليعانون الشتات وغلاء الأراضي والمساكن، فكان الجزاء والعقاب (الدنيوي)، حيث تأخرت تلك المشاريع وتعطّلت ربما بدعوة مظلوم واحد، فما بالك بآلاف وملايين المظلومين في أنحاء الوطن العربي، كل ذلك ليبقى الحكّام على كراسيهم ولينتفع أهل الفساد بالفوضى المباركة من السلطة ويزيد أهل الثروة ثراءً ويبقى الوضع على ما هو عليه، لا ديمقراطية ولا هم يحزنون.