14 سبتمبر 2025
تسجيلعادة ما تتم الإشارة إلى دور الذهب في إسبانيا في القرن السادس عشر والتي لعب خلاله المعدن الأصفر دورا حاسما في الاقتصاد الإسباني باعتباره قطاعا مهيمنا مثلما هو دور النفط في البلدان المنتجة في الوقت الحاضر، إلا أن هناك تجربة حديثة جدا حول دور المواد الأولية في الاقتصادات الحديثة، باعتبارها التجربة الأقرب والأكثر ملاءمة للاستفادة منها وتجنب تكرارها. ففي سنوات الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي تحولت بريطانيا إلى منتج رئيس للنفط والغاز في العالم، ومع أنها لم تكن ضمن البلدان الرئيسة المصدرة للنفط، إلا أنها كانت مكتفية ذاتيا، مما وفر لها مليارات الدولارات كانت تدفع مقابل وارداتها من النفط، إذ انعكس ذلك إيجابيا على كافة مكونات الاقتصاد البريطاني، فبالإضافة إلى تنشيط الاقتصاد، فقد كان لإنتاج النفط والذي بلغ ثلاثة ملايين برميل يوميا تقريبا في عام 1999 انعكاسات إيجابية على ميزان المدفوعات وعلى عائدات الدولة بشكل عام. ومع تراجع إنتاج النفط والغاز في السنوات الأخيرة وتحول بريطانيا من جديد لمستورد، حيث انخفض إنتاج النفط بنسبة 17 بالمائة في العام الحالي، مقارنة بعام 2011 ليبلغ مليون برميل يوميا فقط في حين انخفض إنتاج الغاز بنسبة كبيرة بلغت 21% خلال نفس الفترة وفق تصريحات وزير الطاقة البريطاني تشارز هنري، فقد بدأت الانعكاسات السلبية مساوية تقريبا للتداعيات الإيجابية التي رافقت بدايات إنتاج نفط بحر الشمال، إلا أن الأوضاع في سوق النفط العالمي تغيرت تماما، فالأسعار تضاعفت أكثر من ثلاث مرات، كما أن دولا أخرى، كروسيا تحولت إلى مصدر رئيس للنفط وانضمت البلدان الناشئة، كالصين والهند إلى أكبر مستوردي النفط لتنافس بذلك البلدان المستهلكة التقليدية، كأوروبا الغربية والولايات المتحدة واليابان، مع كل ما يترتب على ذلك من تأثيرات مباشرة على الأسعار. ومع أهمية ذلك لصناعة النفط، إلا أن ما سنركز عليه هنا، هو تلك القضايا المؤثرة على الاقتصاد البريطاني والخاصة بتراجع إنتاج النفط والغاز، وهي مؤثرات شديدة وذات أبعاد اقتصادية وسياسية واجتماعية عميقة، حيث يتوقع أن تستهلك حقول بحر الشمال - والتي بدأت تحتضر- مع حلول عام 2020 وذلك إذا لم تتم اكتشافات جديدة. ومع أن الاقتصاد البريطاني خرج من الركود قبل غيره من الاقتصادات المتطورة التي عانت من الأزمة المالية العالمية، وذلك بفضل المزج بين أسلوبي التسيير الكمي والتقشف والتي أشرنا إليهما في مقالة سابقة قبل أسبوعين، إلا أن الاقتصاد البريطاني وحكومة الائتلاف بزعامة ديفيد كاميرون يواجهان تحديات حقيقة ناجمة عن تراجع إنتاج النفط وارتفاع أسعار الطاقة والذي ولد تذمرا عاما أصبح يهدد نمو الاقتصاد البريطاني من جهة وبقاء الحكومة الحالية من جهة أخرى. وبالإضافة إلى فقد عائدات النفط، فقد ارتفعت فاتورة الواردات، مما اضطر شركات النفط إلى زيادة الأسعار بنسب كبيرة ووضعت الحكومة بين سندان المصاعب الاقتصادية ومطرقة التذمر الناجم عن ارتفاع الأسعار، مما دفع برئيس الوزراء إلى تقديم الوعود والتي من ضمنها تأتي مسألة الضغط على الشركات لتخفيض الأسعار في الفترة القادمة. والحقيقة أن هناك احتمالين أمام السيد كاميرون لحل هذه الأزمة كلاهما لا يملكان إمكانات كبيرة للتطبيق، الأول هو الضغط على شركات النفط لتخفيض الأسعار، كما وعد بذلك، حيث لا يملك رئيس الوزراء الأدوات اللازمة للضغط على الشركات والتي من المستبعد أن تستجيب لهذه الدعوة لارتباطها بأداء هذه الشركات وأرباحها، خصوصا وأنها شركات مساهمة ومدرجة في بورصة لندن، مما قد يعرض السوق المالية لهزة هي في غنى عنها. أما الاحتمال الثاني والذي تملك الحكومة إمكانية تطبيقه من الناحية النظرية، إلا أنها لا تستطيع ذلك من الناحية العملية، فإنه يتعلق بتخفيض الضرائب على النفط والغاز، حيث لا يحتمل لا الاقتصاد البريطاني ولا ميزانية الدولة الباحثة عن موارد جديدة مثل هذا التخفيض. هذه تجربة حديثة تتعلق بالتداعيات التي يمكن أن تترتب على اضمحلال العائدات النفطية، يمكن أن تستفيد منها البلدان النامية المنتجة والمصدرة للنفط والتي ما زالت تمتلك وإلى حين الكثير منها، حيث عمدت بعض البلدان، كالإمارات وقطر والسعودية بصورة صحيحة إلى استثمار مبالغ طائلة في إنتاج الطاقة المتجددة، إلا أن هناك بلدانا أخرى ومن ضمنها بعض دول مجلس التعاون ما زالت بعيدة عن التحضير لفترة ما بعد النفط، وهي مسألة ستحدد المستقبل الاقتصادي للبلدان النفطية بعد ثلاثة عقود من الآن، مما يعني أن هذه التوجهات المستقبلية بحاجة لجهود إضافية مع الاستفادة من التجربة البريطانية والتي تقدم دروسا مفيدة ومهمة للغاية.