18 سبتمبر 2025

تسجيل

أمثلةٌ مشرقةٌ على التواضع (3)

11 يوليو 2014

أذكر شيئاً من تواضع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وما روي من أنه اشترى لحماً أو تمراً، فحمله في مِلحفته، فقال له رجل: أحمل عنك يا أمير المؤمنين. قال: لا، أبو العيال أحق أن يَحْمل. وروي مثل هذا عن أبي هريرة رضي الله عنه، من أنه أقبل من السوق يحمل حزمة حطبٍ، وهو يومئذٍ خليفة بالمدينة لمروان، ويقول: أوسعوا للأمير ليمرَّ والحزمة عليه.ألا يوجد من الرجال، من يأنف أو يستحي، أن يمسكَ بيده شيئاً من متاع السوق؟! لا شك أن هذا حياء وأنفة ليسا في موضعهما الصحيح، يدلان على ما هو مستقرٌّ في النفس من بذرة الكبر، يخشى منها، أن تنموَ شيئاً فشيئاً، ما لم تستأصل.علي بن أبي طالب رضي الله عنه، الذي له درسٌ أصيل في المساواة، وعدم التفريق بين أحدٍ من خلق الله، لاعتباراتٍ مثل الجنس والهوية وغيرها، التي لا يقيم لها الإسلام وزناً، إذ أتته امرأتان، عربية ومولاة لها، فأمر لكل واحدة منهما بمكيالٍ من طعام، وأربعين درهما، فأخذت المولاة الذي أعطيت وذهبت، وقالت العربية: يا أمير المؤمنين، تعطيني مثل الذي أعطيت هذه، وأنا عربية وهي مولاة، قال لها رضي الله عنه:(إني نظرت في كتاب الله عز وجل، فلم أرَ فيه فضلاً لولد إسماعيل على ولد إسحاق).وهذا سلمان الفارسي رضي الله عنه، دخل عليه رجلٌ وهو يعجن فقال مستغرباً مندهشاً: ما هذا؟ فقال سلمان: (بعثنا الخادم في عمل فكرهنا أن نجمع عليه عملين)، لله درك يا سلمان من رجل متواضع رفيق سَمْح، وهل ثم دليل على هذا أكبر مما روي من أنه رضي الله عنه كان أميراً على المدائن، فجاء رجل من أهل الشام، ومعه متاع كثير، فقال لسلمان- وهو لا يعرفه- وكان عليه لبسٌ لا يدل على شيءٍ من الغنى والتنعم، فضلاً عن الإمارة: تعالَ احملْ. فحمل سلمان، فرآه الناس فعرفوه وقالوا: هذا الأمير، قال الرجل وقد بُهِت: لم أعرفك. فقال له سلمان لا، حتى أبلغ منزلك. أذكر هنا قولاً بليغاً لعبد الله المبارك عن التواضع، وهو قوله:(رأس التواضع أن تضع نفسك عند من دونك في نعمة الدنيا، حتى تُعلِمَه أنه ليس لك عليه بدنياك فضلٌ، وأن ترفع نفسك عمن هو فوقك في الدنيا، حتى تُعلمَه أنْ ليس له بدنياه عليك فضل).أختم الأمثلة بالمسك يتضوع من سيرة الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، ذي المآثر والمحامد المؤثّلة، الذي لما وُلّي الخلافة قُدمت إليه مراكب الخلافة فقال: مالي ولها، نحّوها عني وقدموا إليّ دابتي. فقُربت إليه، فجاء صاحب الشرطة يسير بين يديه بالحربة، فقال: تنحّ عني، مالي ولك، إنما أنا رجلٌ من المسلمين. ثم أمر بالستور فرفعت، والثياب التي كانت تبسط للخلفاء فأمر ببيعها وإدخال ثمنها بيت المال.هؤلاء الرجال الذين كل واحدٍ منهم يصح ويصدق فيه قول أبي تمام:فتىً كان عَذْبَ الروحِ لا من غضاضةٍ ولكنَّ كبراً أنْ يقالَ به كِبرُويُتبين فيهم صواب قول الشاعر: مَلأى السنابلِ تنحني بتواضعٍ والفارغاتُ رؤوسهنّ شوامخُ