19 سبتمبر 2025
تسجيلالتوسع الاقتصادي والعمراني على حساب البيئة أواصل في هذا الجزء الثالث من المقال حول حماية البيئة البرية، حديثي عن المخاطر التي تتهدد البيئة البرية والتحديات المترتبة على ذلك لمواجهتها من قبل الجهات المسؤولة عن حماية البيئة والمحافظة عليها وتنميتها، وسأتناول هنا نوعا اخر من التحديات الأخطر على البيئة من وجهة نظري، وهي التوسع الاقتصادي على حساب البيئة. بداية أُّذكر أن تفشي الظواهر السلبية يعود لعوامل، منها: (ا) دوافع لتحقيق مكاسب، أو (ب) الجهل وقلة الوعي والتثقيف أو (ت) نظرا لضعف أو خلل على الجانب التنظيمي، يؤجج من ذلك كله ويفاقم من تفشي الظواهر السلبية، على الأخص: (1) ضعف القوانين، أو (2) ضعف تطبيقها أو (3) ضعف الرقابة، وأعتقد أن كل هذه العوامل متحقق في هذه الحالة. ولذلك الظواهر السلبية تتطلب سياسات استثنائية لمواجهتها؛ سياسات رادعة، وشاملة، ومستديمة، مع زخم تثقيفي كبير، لكسر تسلسل نقلها من جيل إلى اخر، للقضاء عليها أو لابقائها عند مستوى معقول. ولذلك تكون معالجة هذه الظواهر من خلال معالجة الأسباب التي أوجدتها. التوسع الاقتصادي إن أكبر خطر يتهدد البيئة البرية من وجهة نظري هو التوسع التجاري والاقتصادي، إن كان مدفوعا بتحقيق الأرباح الخاصة أو العامة، أو التوسع العمراني، أو تقديم الخدمات العامة، أو استخراج الموارد الطبيعية، أو الاستملاكات الخاصة، ونحو ذلك، والأطراف النشطة في هذا المجال، هي كيانات وشركات قطاع عام وخاص ومختلط، وجهات حكومية. والاشكالية هي ليس في التوسع في حد ذاته طالما ظل مبررا ويخضع لتقييم الجدوى والتكلفة الاجتماعية، وليس مفرطا، خصوصا عندما يكون مدفوعا بالوفرة الاقتصادية في فترات الطفرات كما شهدنا في السنوات الأخيرة، أو غير مدروس الجدوى، والتبعات على الآجل الطويل، فيكون على حساب البيئة، ويخل بتوازن المصالح، ليس فقط خلال هذا الجيل، بل عبر الأجيال القادمة، وهذا يتطلب إخضاع عمليات التوسع هذه ومشروعاتها لمعايير لا يجب تجاوزها، يستعان في وضعها بنوعين من الناس: أهل الخبرة العملية والتجربة من المشهود لهم بذلك من أهل قطر، وأهل الخبرة العلمية والاختصاص، وممكن أن يكون ذلك على شكل هيئة أو مجلس استشاري، وقد اقترحت ذلك قبل عدة عدة سنوات. ويجب أن تأخذ هذه المعايير في الاعتبار جميع التكاليف المترتبة على مشاريع التوسع هذه، ممثلة بالتكلفة الاجتماعية social cost، التي تشمل الأضرار غير المحسوبة اقتصاديا على البيئة والمجتمع، من تدمير وتلويث واستقطاع، ونحو ذلك، وهي أشمل من التكلفة الاقتصادية التقليدية الخاصة التي عادة يتحملها صاحب المشروع، ويمكن أن نطلق عليها هنا تكلفة خاصة، أما التكلفة الاجتماعية فهي تكلفة عامة وتشمل جميع الأضرار، على جميع الأطراف، بما فيها الأطراف غير المستفيدة من المشروع، ممثلة بالمجتمع ككل، بما فيها الأجيال القادمة، أي يدفعها المجتمع حاضرا ومستقبلا، ولذلك يجب أيضا ضمان حقوق الأجيال القادمة في بيئة نظيفة صحية ومنتجة، وهذا احدى ركائز رؤية قطر الوطنية على أية حال. التجريف والتدمير البنيوي للبيئة وهو من أسوأ أنواع التدمير والاعتداء على البيئة، لأنه يحدث ضررا وخللا بنيويا للبيئة، ويعطل وظيفتها الطبيعية أو يخل بالهدف الذي أوجدها الله من أجله، وقد يصعب إن لم يستحل إصلاحه (ولا ضير في ذلك طلما بقي مبررا بما تقتضيه المصلحة العامة دون إفراط ويخضع لمعايير الجدوى والتكلفة الاجتماعية). ومن أكبر الأمثله على ذلك الكسارات والمحاجر، فهي تحدث تدميرا بنيويا مستديما وعلى مساحات شاسعة من الأرض، إذ يلاحظ عليها التوسع إفقيا وليس رأسيا، كما في كثير من دول العالم، وهذا يؤدي إلى اقتلاع وجهة التربة وتدمير الغطاء النباتي بشكل مستديم على مساحات شاسعة، والسبب وراء التوسع الافقي المفرط معلوم، وهو تقليص التكلفة بهدف تعظيم الأرباح، لكن هذا يتم هنا على حساب البيئة والمصلحة العامة، فالأرباح هنا خاصة، بينما التكلفة عامة، يتحملها المجتمع، بما فيه الأجيال القادمة، وهذا ليس بعدل وفيه نوع من الأنانية وسوء استغلال للموارد. أما التأثير الاخر الذي لا يقل ضرار عن الأول، وهو تطايرالغبار الأبيض وتغطيته لمساحات شاسعة من الأرض، وقتل ما يستقرعليه من نباتات وأشجار وتلويث الهواء، وتأثيره السلبي على الحياة الفطرية. فهنا التدمير والضرر الذي تحدث هذه المحاجر بتوسعها الأفقي مضاعف، وعليه حان الوقت لازامها أولا بالتوسع الرأسي في رقعة محددة من الأرض، أي الترخيص بمساحات أصغر على أن يتم الحفر أعمق، وهو استغلال أفضل للأرض وأقل ضررا على البيئة والمجتمع، ثم الإلزام، بإصلاح ما تم تدميره وإعادة التأهيل قدر الإمكان بعد الانتهاء، وإن كان من خلال رسوم أو ضرائب تستقطع من أصحاب هذه المشاريع، ولكن بحيث تكون لإعادة تأهيل البيئة أو للحد من تدميرها، وبطبيعة الحال قبل هذا كله، يجب اختيار المكان المناسب، بعيدا عن مناطق الرياض والمراعي والمناطق المؤهلة والتي يستفيد منها الناس. مشاريع التوسع العمراني والصناعي هناك مشاريع تقوم بها بعض كيانات القطاع العام والجهات الحكومية وتفتقر لتقييم شامل لآثارها على البيئة والمجتمع حاضرا ومستقبلا، وهي عرضةً لملاحظتين: (1) توسعها في استقطاع الأراضي بشكل مفرط (وكأن هناك تنافسا بينها للحصول أكبر قدر ممكن من الأراضي لها)، و (2) وضعها في مناطق قد لا تكون مناسبة، كمناطق الرياض والأراضي المنبتة وذات الطبيعة البرية، وتشكل موارد طبيعية في حد ذاتها، في حين يمكن تجنب ذلك ووضعها في مناطق أقل فائدة، كالمناطق الأقرب للسواحل، التي تقل بها الرياض، وأقل فائدة للرعي أو الزراعة أو غير ذلك من استصلاحات، مقارنة بمناطق أواسط قطر. كما أنه مطلوب الحد من التوسع غير الضروري في مد الطرق في البيئة البرية إلى أقل قدر ممكن، وذلك لتعظيم المحافظة على بيئتها الطبيعية بشكل عام، ولتقليص الأثر التدميري المباشر وغير المباشر لهذه الطرق على البيئة البرية بشكل خاص، على سبيل المثال من خلال إسهام هذه الطرق في إضعاف بيئتها البرية الطبيعية بتسهيل الوصول إليها، وغير ذلك. وتبقى المسؤولية الأكبر على عاتق جهات الحماية البيئية، للقيام بدورها في ذلك، وتحمل مسؤولياتها في الدفاع عن البيئة ضد توسع الجهات الأخرى واخضاعها لمعايير لحمايتها، وتنميتها، والمحافظة على بيئتها الطبيعية، والحد من الإسراف أو سوء استخدامها، وإخضاعها لمعايير التكلفة الاجتماعية، ولا يجب أن تكون هي الحلقة الأضعف في ذلك كله.