18 سبتمبر 2025

تسجيل

شرخ في جدار العلاقات الأمريكية الأوروبية

11 مايو 2016

عندما أعلن السيد جون كيري الأسبوع الماضي أنه اتفق مع زميله (وحليفه!) سرغاي لافروف على وقف إطلاق النار في حلب كتبت صحيفة (لوموند) الفرنسية الأوروبية تقول:"ما دام قرار الحرب وقرار الهدنة يتمان باتفاق بين أمريكا وروسيا فلماذا نحن الأوروبيين نرسل جنودنا يموتون وطائراتنا تقصف؟" استخلصت الصحيفة بأن أوروبا لم تعد حليفة واشنطن! كما أن أبرز حدث سياسي حرك المياه الأسنة في الغرب هو الذي عشناه أواخر أبريل حين زار الرئيس أوباما بعض العواصم الأوروبية وأهم محطاتها لندن ليبلغ الأوروبيين رسالتين، الأولى: أيها البريطانيون لا تغادروا الاتحاد الأوروبي، والثانية: أيها الأوروبيون وقعوا معاهدة التبادل التجاري الحر بينكم وبين الولايات المتحدة. بريطانيا ردت بأدب حازم على النصيحة الأوبامية بقولها (تقريبا) أهل لندن أدرى بشعابها، والأوروبيون (خاصة برلين وباريس) ردوا على الدعوة الثانية بإعلان تمسكهم بالقوانين الأوروبية الصارمة في رفض الأغذية المعدلة جينيا (من حبوب بالتلقيح ودجاج بالهرمونات وهمبرجر الأبقار المسمنة اصطناعيا والسيارات الملوثة للبيئة إلخ إلخ..) وهو رفض أوروبي يتجاوز الأسباب الصحية ليصبح موقفا أوروبيا من نموذج حضاري أمريكي يعتمد التوحش الرأسمالي والربح السريع. الحكمة التي نستخلصها من هذا الاختلاف العميق هي أن ما نسميه نحن (الغرب) كأنه جبهة صلبة موحدة ما هو في الحقيقة سوى حلف عسكري يمثله الناتو ولا يعززه اتحاد سياسي ولا توافق حضاري يجمع بين ضفتي المحيط الأطلسي. والأربعاء الماضي فضحت صحيفتا (الجارديان) البريطانية و(الواشنطن بوست) الأمريكية مخططات لندن السرية للتدخل في سوريا بطرق ملتوية (كالاختراقات المخابراتية التي تذكرنا بجيمس بوند) بعد رفض مجلس العموم لديها السماح بالتدخل العسكري مما أثار حساسية الدبلوماسية الأمريكية وأربك مشاريع البنتاجون.وتذكرون أيها القراء الأفاضل حين سافر أحد القضاة الألمان منذ مدة إلى موسكو واستجوب (سنودون) الموظف السابق بوكالة الأمن القومي الأمريكي الذي فضح ممارسات التجسس الأمريكي على القادة الأوروبيين وعلى اتصالاتهم، ثم استقر في روسيا لاجئا وهذه الزيارة (القضائية) تنذر باستمرار الشقاق بين الحليفين وبعدها اكتشفت باريس أن الدور الخامس في سفارة الولايات المتحدة في ساحة (لاكونكورد) بالعاصمة الفرنسية هو عبارة عن ملحق بوكالة المخابرات الأمريكية ثم انعقدت قمة أوروبية غير مسبوقة ولم تكن على بال واحد من القادة ولا الخبراء في العلاقات الدولية لأنها قمة.. خصصت لمعالجة قضية غريبة وهي اكتشاف حكومات الاتحاد الأوروبي أن وكالة الأمن القومي الأمريكية الرسمية تتنصت على هواتف أبرز القادة الأوروبيين وبخاصة جوال السيدة أنجيلا ميركل والسيد فرنسوا هولند وأن الوكالة الأمريكية (أي في الحقيقة الإدارة الأمريكية) أصبحت في المنظور الأوروبي تتصرف كعدو إستراتيجي مهما كانت العبارات الدبلوماسية المنمقة التي اختارتها القمة في بيانها الختامي وسبق أن وصفت (ميركل) العمليات المخابراتية بالتجسس، وأضافت أن التنصت على جوالها الشخصي كان لها بمثابة الهزة القوية لأن واشنطن حليف ولم يجد الرئيس (أوباما) بدا من الاعتراف المبطن بالتجسس لكنه أوعزه بالطبع إلى ضرورة الحفاظ على الأمن الغربي (أمريكا وأوروبا واليابان والحلفاء التقليديين لحلف الناتو).والعالم يشهد منذ عشرة أعوام بأن الاتحاد الأوروبي شعر أنه لابد أن يعمل من أجل إقرار سياسة خارجية موحدة وإنشاء قوة عسكرية مشتركة، كان دعا إليهما وزير الخارجية الفرنسي الراحل (ميشال جوبير) في السبعينيات. اليوم فهم المراقبون الأذكياء بأن أشياء كثيرة بدأت تتغير في ملف العلاقات الأوروبية الأمريكية مع احتمال فوز (دونالد ترومب) بعرش البيت الأبيض بعد شهور عقب انتهاء ولاية (البركة بن الحسين أوباما). ومنذ تفاقم الأزمة الاقتصادية العالمية سنة 2008 أدرك الأوروبيون أن انطلاق الأزمة كان من أمريكا وأن واشنطن هي مصدر البلاوي المالية الأوروبية خاصة بعد تغول الدولار ضد اليورو والاستفراد بتخفيض سعر البرميل وبدأوا يخشون حلفا جديدا يتشكل من واشنطن وموسكو على حساب منظومة الأطلسي التقليدية وهو منعرج خطير في العلاقات الدولية تأمل أوروبا ألا يكون على حسابها.وحين ظهر ما يسمى بالربيع العربي تزعزعت موازين القوى بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ونتذكر أنه منذ رئاسة نيكولا ساركوزي للاتحاد الأوروبي، ومع بروز معضلة القرصنة البحرية في المعابر التقليدية والتي هددت التجارة العالمية وإمدادات النفط والغاز تعزز التعاون بين الحليفين بعودة فرنسا إلى القيادة المركزية لحلف الناتو وكذلك مع حلول عصر جديد في العالم وصلت خلاله أمم صاعدة إلى مركز القيادة والريادة مثل الصين والهند والبرازيل وعودة روسيا التدريجية إلى سالف عنفوانها مع ملف النووي الإيراني والأزمة الأوكرانية وقصف المدن السورية. وقد ذكر المراقبون بأن الأخطار المحدقة بأوروبا تدفع الاتحاد الأوروبي إلى إعادة النظر في نوعية الارتباط ما بين أوروبا وحلف شمال الأطلسي أي في الحقيقة ما بين القارة العجوز التي تعتبر نفسها أم الولايات المتحدة وما بين الولايات المتحدة التي تعتبر نفسها راعية وعرابة أوروبا وغطاءها النووي! لاحظنا أن التغييرات الطارئة على وزارات الخارجية الأوروبية هذه الأيام تهدف إلى طمأنة واشنطن بأن الاتحاد الأوروبي لا ينوي قلب الموازين الغربية رأسا على عقب بل يرمي إلى التأكيد على أن أوروبا تسعى فقط إلى نوع من التكامل والتناغم مع حلف شمال الأطلسي والولايات المتحدة على أسس سيادية جديدة مستقلة.