11 سبتمبر 2025
تسجيللم يفاجئني قيام الحكومة القطرية بإيداع مذكرة رسمية لدى الأمانة العامة للجامعة العربية خلال الأسبوع المنصرم بشأن ترشيح عبدالرحمن بن حمد العطية عبر سفيرها النشط في القاهرة ومندوبها الدائم لدى الجامعة صالح عبدالله البوعينين ليس لأنني كنت على دراية بمثل هذا النبأ وإنما لأن العطية في حد ذاته يمتلك رصيدا شديد الإيجابية على مدى تسع سنوات أمضاها أمينا عاما لمجلس التعاون الخليجي نجح في تحويله إلى منظومة فاعلة وديناميكية وأضحت ذات تماس واضح مع المواطن الخليجي خاصة في مفردات حياته اليومية وشخصيا كنت واحدا من المتابعين لمسيرة الرجل قبل أن يتبوأ هذا المنصب من خلال وجوده بوزارة الخارجية القطرية بدءا من عمله سفيرا في باريس وحتى وصوله إلى موقع وكيل الوزارة مرورا بتوليه مسؤولية إعداد قطر لاستضافة أول قمة لمنظمة المؤتمر الإسلامي وإشرافه على عدد من الملفات الخاصة التي حققت فيها الدوحة نجاحات دبلوماسية مشهود لها وخلال هذه المسيرة التي امتدت إلى أكثر من عشرين عاما بالنسبة لي ِأشهد أن الرجل لم تتوقف حيويته عند حد فهو دائم التفكير ومبادر بوضع السياقات والآليات لتنفيذ أفكاره ومشروعاته الرامية إلى التطوير والتحديث وضخ الدماء الجديدة إلى حد المغامرة المحسوبة فضلا عن ذلك يمتلك القدرة على المتابعة بحيث تكون هناك استمرارية للأفكار والمشروعات التي تتقاطع دوما مع القضايا الكبرى وهو ما لمسته خلال وجوده على رأس منظومة مجلس التعاون الخليجي التي كنت معه محاورا بشأنها بشكل دءوب يصل في بعض الأحيان إلى مستوى الإزعاج وإن كان لم يظهر ذلك لي في الخارجية القطرية وفي مجلس التعاون الخليجي كان عنوانه العمل المتقن وبجودة عالية. لذلك فإن الفريق الذي يتعاون معه كان يعاني شدة الانضباط في المواعيد والسرعة في الأداء والمتابعة والإسراع في بلورة النتائج . ورغم ذلك فإن أحدا من أفراد هذا الفريق لم يكن يشكو لأن العطية كان يتعامل مع الجميع بمنطق الأخ الأكبر وليس رئيس العمل المستبد الذي بمقدوره فرض قراراته. كان يجيد توظيف مهارات كل شخص يعمل معه ويدرك المدى الذي يمكن من خلاله الوصول إليه. لذلك وفر أجواء من المحبة والتقدير المعنوي قبل المادي فوقع ما يمكن وصفه بالامتزاج بينه وبين فريقه فأخلصوا له وعملوا معه من منطق مغاير تماما ينهض على تقديم أقصى ما لديهم من وقت وجودة وإتقان والأهم من ذلك لم يتبع منهجية الشللية بل كان يستخدم المنهج العلمي القائم على الاستعانة دوما بأهل الخبرة وليس الثقة فأحاط نفسه بهم إضافة إلى قراءة الواقع على نحو عميق مما أهل قراراته لتكون منسجمة مع متطلبات هذا الواقع ولست هنا في معرض الإشارة إلى ما أنجزه على صعيد مجلس التعاون الخليجي من تحولات نوعية جعلته يغادر منطقة الأمن التي ظل مقيما فيها بمفردها لسنوات طويلة فتحرك إلى مناطق أخرى في مقدمتها الاقتصاد والتجارة عبر الاتحاد الجمركي والسوق الخليجية المشتركة والاتحاد النقدي والتي كانت قبل مجيئه إلى المجلس مجرد أحلام وربما شعارات يترقب الجميع مقاربتها واقعيا وعلى المستوى السياسي فإن العطية كان أول أمين عام يتحدث عن الإصلاح السياسي بل إنه طرح لأول مرة في المنطقة فكرة المنابر السياسية خلال مداخلة له بمهرجان الدوحة الثقافي قبل سنوات صحيح وكانت حواراته الصحفية والتليفزيونية زاخرة بالآراء التي تعكس الرغبة في تطوير المنطقة سياسيا وإدخالها مواقع متقدمة من حيث التقدم الديمقراطي وعلى المستوى الدولي العطية أول من أدخل فكرة الحوار مع المجموعات الدولية المناظرة لمجلس التعاون فضلا عن الدول المتقدمة إلى حيز التنفيذ بل أٍسهم في تقديم مجلس التعاون بتراثه الحضاري وتأُثيره السياسي والاقتصادي في عالم اليوم إلى العديد من الدول عبر ما أطلق عليه أيام مجلس التعاون والتي نظمت في عدة عواصم كان آخرها في شهر فبراير الماضي بسيول عاصمة كوريا الجنوبية ويتمتع العطية بقدرة على صياغة علاقات تقوم على الاحترام المتبادل مع رجالات الإعلام والصحافة فأنت ترى في كل عاصمة عربية مجموعة من الأصدقاء وهو يقترب في هذا السياق ممن يحترمون ذواتهم ويبتعد عن هؤلاء النفر الذين يمكن أن يلمح فيهم سعيا لمصلحة خاصة وهو في الآن ذاته يدرك طبيعة الرسالة التي يريد توجيهها من هذا الصحفي أو ذاك وتلك ميزة نسبية فيمن يتبوأ منصبا مهما وهو ما جعله على تواصل مباشر مع الكثيرين من هؤلاء دون تعال منه أو إفراط كان يمسك بالكرة في ملعبه يقرر متى يقذف بها ولم يكن يرفض طلبا لحوار صحفي وهو ما خبرته معه على مدى السنوات العشرين المنصرمة بشرط أن يتيقن أن هذا الحوار سيحمل الجديد وكثيرا ما كنت أحصل منه شخصيا على جديد وسبق صفحي كان لـ" الشرق " نصيب منه " بعد التحاقي بها قبل نحو عام ونصف العام وبوسعي الجزم أن العطية يمتلك حسا إنسانيا رفيع المستوى إن جاز لي هذا التعبير- فهو من ذلك النوع من المسؤولين الذين لم يصبهم غرور المنصب أو كيمياء السلطة فمن عرفه لن يجد كبير اختلاف في شخصيته سواء خلال فترة عمله سفيرا في عدد من العواصم العربية والدولية أو بعد توليه موقع الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي ظل هو العطية لم يقلب مائدة صداقاته. وإن كان قد ضاعف أعداد من يجلسون على مقاعدها. لم يتنكر للعاملين معه في مواقع مختلفة فضلا عن قدرته على الكشف عن الموهوبين وتصعيدهم في العمل معه ولعل نموذج محمد المالكي الذي كان مذيعا بإذاعة قطر فاختاره للعمل بمكتبه عندما كان وكيلا للخارجية والآن هو دبلوماسي متوهج بالوزارة تنقل في عدد من العواصم العربية والأجنبية وفي زمن العطية تحول مقر الأمانة العامة لمجلس التعاون الخليجي إلى خلية إنسانية بالمعنى الكامل للمفردة فليس ثمة قيود تحول المكان إلى ما يشبه الثكنة العسكرية كما كان يحدث في سنوات سابقة وإنما مكان مفتوح للفكر والحوار والعمل الدءوب في سياق يحرص على الإنجاز وكان هو أول من عمل على زيادة مرتبات العاملين بالأمانة ومنحهم ترقيات يستحقونها وفرصا للإبداع والتميز لم تتح لهم من قبل وأدخل لأول مرة المرأة لتكون ضمن السلك الوظيفي بعد أن كانت الأمانة العامة مغلقة على نون النسوة على نحو متعسف والأهم من ذلك هو أنه كان أول من فتح الباب أمام القضايا الإنسانية لتكون ضمن جدول منظومة مجلس التعاون الخليجي والذي كان يقتصر على القضايا السياسية والأمنية والاقتصادية كما أجرى لأول الحوارات الممنهجة حول دور وأداء مجلس التعاون عبر ندوات كان يشارك فيها مفكرون وإعلاميون من مختلف الاتجاهات بدول المجلس وبعد فإن العطية يستحق في ضوء كل هذه المعطيات أن يكون أمينا عاما للجامعة العربية ولكن الأمر يتطلب حركة مبرمجة تعتمد على استراتيجية نشطة قادرة على قراءة واقع النظام الإقليمي العربي وتتمكن من اختراق محاذير عديدة وتسعى إلى تحقيق توافق عربي بشأنه السطر الأخير: لا تسافري انهضي من سباتك أعيديني إلى نهرك المحمل بالياقوت كوني الصدى لعشق كاد يموت بثي في شراييني رحيقك الأبدي اقتربي من حقولي أمطريني بدفئك الأسطوري وقدس أقداس البراءة أيا سر البهجة القديمة تشتعل في الروح دونما خفوت [email protected]