10 سبتمبر 2025
تسجيلسعدت كثيراً بتكريم جائزة الدوحة للكتاب العربي في دورتها التأسيسية للفيلسوف والمفكر العربي المغربي الكبير د. طه عبدالرحمن، على هامش تكريمه، رفقة نخبة من المفكرين العرب الآخرين. في كل حواراتي معه ومع السيدة الجليلة حرمه، خلال الأيام الثلاثة المخصصة لفعالية التكريم وإطلاق الجائزة، كانت غزة هي موضوع الحديث. في واحدة من تلك الحوارات التي ألفتها رغم أنني كنت أراه عليه للمرة الأولى في حياتي، أبديت له إعجابي الشديد بمقاله عن طوفان الأقصى الذي نشر في موقع الجزيرة قبل شهرين تقريباً، فلمعت عينه بدمعة متأبية ثم ارتجفت يده التي كانت يحمل بها كتابين في تلك اللحظة. صمت قليلاً قبل أنه يقول بصوت هامس وكأنه يعتذر؛ إنه جهد المقل جداً وربما المقصر. ثم أردف: أعمل حاليا على كتابة مقال آخر أستكمل به حديثي عن غزة وطوفانها، وسينشر قريباً بإذن الله. في الندوة الرئيسة لفعالية إطلاق الجائزة تحدث طه عبد الرحمن مع تسعة من المفكرين الأجلاء الآخرين المكرمين على جهودهم كل في مجال عطائه العلمي، حيث خصص الجزء الأكبر من كلمته، التي كان ينبغي أن يتحدث فيها عن إنجازاته الفكرية، للحديث أيضا عما يحدث في غزة وربط ذلك بفكرته الفلسفية العامة والتي انطلق منها لفهم الحياة منذ هزيمة العرب الكبرى في العام 1967، باعتبارها المحفز الذي دفعه إلى عالم الفلسفة، وصولاً إلى ثنائية “الثغر والمرابطة”، إذ ربط العلاقة بين طرفي هذه الثنائية بكل ما حدث ويحدث للأمة العربية حتى الآن! وفي معظم كتب طه عبدالرحمن مثل “تجديد المنهج في تقويم التراث”، “الحق العربي في الاختلاف الفلسفي”، “الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري”، “روح الحداثة: المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية”، “روح الدين: من ضيق العَلمانية إلى سعة الائتمانية”، و”ثغور المرابطة: مقاربة ائتمانية لصراعات الأمة الحالية” تتجلى فكرة تطبيق الفلسفة العامة على راهن الأمة استشرافاً لمستقبلها، وهو ما ميز هذا الفيلسوف الذي عاش ثمانين حولاً قضى معظمها في البحث عن المعنى العام للحياة من نافذة المقاربات والمقارنات المستمرة، ما بين الماضي والحاضر والتراث والحداثة، وهو ما جعل أثره الفكري والفلسفي يتجاوز محيط اللغة العربية إلى آفاق واسعة خارج خريطة العرب. واشتهرت لصاحب فكرة ثغور المرابطة المعنوية مقولات عن خطورة التطبيع مع الصهاينة، على هامش العدوان الأخير والمستمر على غزة منها قوله: «لولا التطبيع ما أقدمت دولة الاحتلال على ما أقدمت عليه، ولو أن الدول المطبعة اتخذت موقفا لتوقفت تلك الهجمات الإجرامية”، و “تخاذل الأمة يدمي القلب، خاصة تخاذل المثقفين”، و “أعتبر أن عددا كبيرا من المثقفين قد خانوا الأمانة وخانوا الثقافة”.! أما أكثر تفسيراته الفلسفية لطوفان الأقصى إثارة فهو قوله: «أن السياق الفلسطيني لطوفان الأقصى يفتح على السياق الإنساني من جانبين على الأقل؛ أحدهما، أن هذا الطوفان فيه من طوفان نوح عليه السلام نصيب، وهو «استئصال الشر من الأرض»، بحيث يتهيأ بفضله الإنسان من حيث هو كذلك ليتلقى قيما جديدة؛ والثاني أن «الأقصى» فيه من إسراء محمد عليه الصلاة والسلام نصيب، وهو «التحرر من قيود المادة»؛ فيكون «الأقصى» أو قل «المَسرى» آية دالة على تعميم القيم الجديدة على البشرية جمعاء، بحيث لا يحدُّها أي اعتبار مادي». وهو بهذا يتوسع بالفكرة من حدودها الجغرافية إلى واقعها الإنساني الأشمل والأوسع والأعمق. شكراً لجائزة الدوحة للكتاب العربي التي استحضرت هذه القامة العلمية الكبيرة وتسعة آخرين كلهم يستحقون الحفاوة والاهتمام، ليكونوا سفراء الجائزة الكبيرة بانطلاقتها الأولى، كمبادرة رفيعة المستوى تضاف إلى سجل المبادرات الثقافية الجليلة من قلب الدوحة إلى فضاء العالم.