13 سبتمبر 2025

تسجيل

الذكرى الأربعون لليلة انقلاب القذافي على بورقيبة ! 

11 مارس 2022

في ليلة من ليالي شهر مارس 1982 حدث لنا في تونس أمر غريب كنت بدون إرادتي أحد شهوده و"لاعبيه" وإلى يوم الناس هذا أعتقد أنه لا أحد لا في بلادي ولا في ليبيا الشقيقة يعرفه أو حتى سمع عنه. فالرجلان اليوم في ذمة الله ولا بأس أن أميط بعض الستائر عن محطات تاريخية مجهولة ليعتبر بها الشباب العربي حتى يدرك كيف كانت تدار دولهم في لحظات من الزمن القديم وهي دول مشخصنة يلبسها رجل واحد يحيط به حزب واحد يشحنها بأمراضه البدنية والنفسية ويتحصن برهط غريب من البطانة الفاسدة القوية، لأن بطانة الخير والعمل الصالح تحيد أو تنفى. وإليكم أسرد هذه الواقعة التي ظللنا في منافينا الطويلة نتذكرها أنا والمرحوم محمد مزالي رئيس حكومة تونس الذي عاشها ونتندر بتفاصيلها. في مارس 1982 أدى العقيد القذافي زيارة إلى تونس نسميها نحن رسمية ويصر "قائد الثورة" على تسميتها بالشعبية. وهو ليس مجرد اختلاف في التسميات الدبلوماسية لأن بورقيبة كان يعتبر القذافي مجنونا وكان القذافي يعتبر بورقيبة مريضا بالخرف (وهذا سمعته شخصيا ومباشرة من بورقيبة والعقيد بالطبع كل على حدة) وكان العقيد يعلن لنا فجأة بأنه سيزور "مقام والده الزعيم بورقيبة" فتشكل الخارجية لجنة لاستقباله في المطار وتنتظر اللجنة لكن العقيد يحل ببلادنا عن طريق البر من معبر رأس جدير! وفي المرة الثانية حين دعا القذافي نفسه لزيارة تونس شكل مزالي لجنتين لاستقبال الضيف واحدة في المطار والثانية في رأس جدير تحسبا للمقلب الأول فكانت المفاجأة! وهي أن "القائد" وصل إلى ميناء صفاقس عبر البحر وعادت اللجنتان بخفي حنين! السبب هو أن العقيد يفضل الوصول إلى تونس متسللا "للالتحام مع الشعب" معتقدا أن الجماهير التونسية ستهب لاستقبال "زعيم الجماهيرية" بتلقائية وحماس بل وربما نصبته قائدا لثورتها الشعبية وهو ما لم يحصل أبدا. أما في مارس 1982 فقد حل الضيف مبجلا (مع خمسين فتاة عسكريات في غاية الجمال والأنوثة يحملن إشارات على زنودهن كتبت عليها عبارة النصر أو الشهادة) حتى أن بورقيبة سأل ضيفه مداعبا: النصر في أية معركة والشهادة من أجل أية غاية؟) قرر بورقيبة إسكانه في قصر السعادة بالمرسى وكلف وزير الدفاع صلاح الدين بالي "بالعناية بالضيف" أي في الحقيقة بالطبع ضمان سلامة العقيد ولكن أيضا إحاطة وحداتنا وأجهزتنا الخاصة بتحركاته والحذر من مكالماته واتصالاته والتحسب لكل مبادرة قذافية غير متوقعة. وفي اليوم الثاني من تواجد قائد الفاتح بيننا اتصل برئيس الحكومة محمد مزالي وطلب منه أن يبعث بصحفي تونسي يحاوره على قناتي تونس وليبيا مباشرة... فتصرف مزالي أمام هذه المفاجأة بحكمة واتصل بي هاتفيا ليعلمني بالأمر وكنت أنذاك مديرا ورئيس تحرير لسان الحزب الحاكم (جريدة العمل) وقال لي: حاوره أنت يا أحمد مع مدير الإذاعة عبد العزيز قاسم وستكتفي قناتنا بالتسجيل لتبث الحديث قناة ليبيا وحدها مباشرة، لأن القذافي سوف لا يتردد عن كيل الشتائم لبورقيبة والهادي نويرة. وحللت مع عبد العزيز قاسم بقصر السعادة حيث استقبلنا العقيد ورحب بنا وأخذني بالحضن حين أعلمته باسمي مؤكدا لي أن عائلة القديدي هي من أخواله وأن خاله هو بدر الدين القديدي! أجرينا معه الحديث وهو خطاب العقيد المعروف والمكرر عن الكتاب الأخضر والنظريات العالمية الثالثة وبالفعل كال بعض التهم لمن عطلوا مشروع الوحدة بين تونس وليبيا وشتم "أمريكا" وبعد ساعتين انصرفنا شاكرين وكان يعتقد أن قناة تونس بثت كلامه مباشرة. وعندما هممنا بالمغادرة اقترب مني الرائد محمد العواني وهو الضابط المكلف من وزارة دفاعنا بتأمين العقيد وهو من نفس مدينتي القيروان ومن جيلي ليقول لي إن القذافي دعاه لتناول الشاي معه منتصف الليل وكلفني العواني أن استشير له وزير الدفاع ليأذن أو لا يأذن. فالرائد العواني وطني عسكري منضبط ويدرك خلفيات سلوك العقيد. وبالفعل اتصلت بصلاح الدين بالي وبمحمد مزالي فكلفاني بإبلاغ الرائد الأمر بأن يستجيب لدعوة العقيد ويستمع له دون أن يجيب ثم يتصل بوزير الدفاع مباشرة بعد المقابلة ويعلمه بتفاصيلها عبر الجهاز اللاسلكي الخاص المشفر. وذهب الرائد يتناول الشاي مع العقيد فإذا بالقذافي يقول له: "ما شاء الله أنت عليك سمات الضباط الأحرار فلماذا لا تقوموا بإكرام والدنا الزعيم بورقيبة أمد الله في أنفاسه وتعفوه من أتعاب ومشقة السلطة وتضعوه "في قفيفة (سلة) من ريش "هكذا حرفيا! يستريح بعد سنوات المنافي والسجون والكفاح ونحن في الجماهيرية سنتكفل بكل شيء لمساعدتكم على هذا العمل الوطني الصالح". كانت هذه رسالة العقيد الغريبة التي قرأناها على حقيقتها أي تدبير انقلاب على بورقيبة في عقر داره ولم يخبر بها أحد منا الزعيم بورقيبة الذي كان في الحقيقة يدخل مرحلة أرذل العمر ولكن تونس لم تكن في حاجة إلى هزات من هذا الصنف غير مأمون العواقب وإلى مغامرات قذافية مجهولة التداعيات في منطقة مغاربية مستقرة تبحث عن وحدتها وأخذ نصيبها من التنمية ونعرف جميعا ما آلت إليه الأمور في تونس وليبيا منذ ذلك التاريخ إلى اليوم. اللهم اهدنا إلى صراطك المستقيم.