18 سبتمبر 2025
تسجيللقائي الأول معه كان في اسطنبول في مطلع تسعينيات القرن الماضي حيث كان يرأس مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية (أرسيكا) التابع لمنظمة التعاون الإسلامي.وأجريت معه حوارا أدركت خلاله مدى إلمامه بالهموم الحضارية للأمة وظللت بعدها أتتبع أخباره عن بعد والتقيته مرة بالدوحة في إحدى الفعاليات وعندما تم ترشيحه لتولي الأمانة العامة لمنظمة التعاون الإسلامي والتي كانت تسمى من قبل المؤتمر الإسلامي اجتاحني تفاؤل بأن يقود تغييرا جوهريا في نهج وأداء المنظمة وبعد توليه المنصب بفترة قصيرة حاورته بالدوحة فتيقنت أنه الشخص المطلوب للمرحلة وهو ما أثبتته السنوات التي تلت ذلك حتى آخر فعالية للمنظمة والتي تجسدت في القمة الإسلامية العادية الثانية عشرة التي احتضنتها القاهرة يومي الأربعاء والخميس الماضيين مختزلة أسلوبه ومنهجيته العلمية وروح التوازن التي يتسم بها فكره وحيويته السياسية. ويشهد العديد من زملاء المهنة كيف كنا نعاني قبل أن يتولى البروفسور إحسان أوغلي في الحصول على معلومة أو حوار مع الأمين العام لمنظمة المؤتمر (التعاون الإسلامي) فمع تقديري لكفاءتهم السياسية كانت تنقصهم الجرأة في مخاطبة وسائل الإعلام وتسيطر عليهم هواجس دفعت بعضهم إلى انتهاج الصمت فضلا عن تبنى استراتيجية العزلة وأذكر أن أحدهم وكانت الدوحة تستعد لاستضافة القمة الإسلامية عندما توجهنا إليه مجموعة من الصحفيين المتميزين بالدوحة وكاتب هذه السطور إلى المطار للحصول على تصريحات منه اكتفى بالإدلاء ببعض عبارات اتسمت بالمجاملة والطابع الشديد الرسمي فخرجنا بخفي حنين. بيد أن إحسان أوغلي القادم من خلفية مشبعة بالحضارة العربية والتركية حيث تلقى تعليمه بالقاهرة وأقام في واحد من أهم أحيائها –شبرا- غير مسار المنظمة سواء من حيث الشكل أو المضمون انطلاقا من إجراء تعديلات نوعية في هيكلها على نحو جردها من الكثير من عوامل الترهل والكمون والأهم من ذلك أنه أدرك أهمية الانفتاح على الإعلام من دون شطط وأحاط نفسه بمجموعة من المحترفين الفاهمين لمفاتيح التواصل وفي الآن ذاته دفع المنظمة لتكون شريكا في صناعة الفعل الأقليمي والدولي وليست مجرد متلقية لهذا الفعل ومسهمة بقوة في صياغة الرؤى والتطورات والقرارات التي تخدم مصالح الأمة ولأول مرة نلمس أمينا عاما يتنقل بين العواصم المهمة في العالم ملتقيا مع قادتها شارحا رؤية العالم الإسلامي عاملا على إقناعهم بها فضلا عن التحرك إلى المناطق الملتهبة حاضرا فيها بقوة ومشاركا في احتواء النزاعات سواء داخل بعض الدول الإسلامية أو فيما بينها وتلك أدوار كانت مغيبة عن المنظمة باختصار تحولت "التعاون الإسلامي في زمن إحسان أوغلي إلى أيقونة من الحيوية والتفاعل والانفتاح والتواصل وفق أسس مهنية علمية مدركة لأهمية مكانتها ومكانها بحسبانها أهم منظمة دولية بعد الأمم المتحدة والتي أدركت هي الأخرى مدى حيويتها فيما يتعلق بتحقيق الأمن والاستقرار في العالم خاصة أن الأمة الإسلامية تشكل من ربع سكان العالم. وأظن أن كل هذه التحولات التي قادها بن إحسان وهذا هو معنى كلمة أوغلي التركية والتي تخطئ الكثير فيها وسائل الإعلام بما في ذلك التي أتعامل معها فتحولها إلى "أوغلو "وراءها هذا الموروث الحضاري والفكري الساكن في ذهنية ووجدان الرجل المتخصص في تاريخ العلوم وهو تخصص يكاد يكون جديدا أسسه في جامعات تركيا وجامعات أخرى وشارك بأبحاثه ودراساته وطروحاته في العديد من مراكز الدراسات والفعاليات العلمية مما جعله في إدارته لمنظمة المؤتمر ثم التعاون الإسلامي وفق منهجية علمية قائمة على استقراء الواقع والقيام بعملية تقدير هادئة للتطورات التي تتعامل معها وصولا إلى أفضل البدائل مما أسهم في أن تتسم القرارات الصادرة عنها بالعقلانية والروية والواقعية فضلا عن الاتساق مع محددات الشرعية الدولية وحقوق ومطالب الشعوب وهو ما نراه متجليا على سبيل المثال في الإلحاح على الحكم الرشيد والديمقراطية والتعددية واحترام حقوق الإنسان مع منحها البصمة الإسلامية رغم أنها باتت من أسس الفكر السياسي الحديث. وبعيدا عن الفكر والسياسة فإن البعد الإنساني في شخصية إحسان أوغلي يتسم بقدر كبير من العمق وهو لمسته على مدى السنوات العشر فهو قريب من معاونيه لا يتعامل معهم من مقام الاستعلاء ولكنه وفق منهجية فريق العمل موزعا الأدوار بشكل عادل بين الجميع مما أسهم في نجاح عملية إعادة الهيكلة التي قادها بكفاءة للمنظمة ومؤسساتها بصورة جعلتها أكثر فعالية وتفاعلا مع مطالب الشعوب رغم أنها منظمة حكومات بالدرجة الأولى ويكفى الإشارة إلى تأسيس مجلس حقوق الإنسان التابع لها واهتمامه بالبعد التنموي ومكافحة الفقر وقضايا التعليم وتكريس قيم التسامح والقبول بالآخر بعيدا عن التعصب والشطط الذي نراه متجليا في الغرب ضد الإسلام والمسلمين. وشخصيا أعتز بارتباطي بهذا الرجل الذي لم يبخل علي يوما بالإجابة عن تساؤلاتي أو إجراء حوار معه خلال زياراته المتكررة للقاهرة في الأعوام الخمسة الأخيرة فقد أسرني بكرمه السياسي والفكري وجعلني أحقق مرات كثيرة سبقا صحفيا في كثير من التطورات والفعاليات الخاصة بالمنظمة ولعلي لا أكون مبالغا أن بساطته مع عمق شخصيته واتساق مظهره مع جوهره لعبت دورا كبيرا في تجسير المسافات بينه وبين الآخر سواء أكان مسؤولا أو إعلاميا مما جعله قريبا من القلب ومن العقل وقليل الخصوم. إن البروفسور إحسان أوغلي من نوعية كبار المسؤولين رفيعي المستوى الذين لم تبهرهم المواقع أو المناصب وظل محتفظا- وفق ملاحظاتي – بجوهره الإنساني العميق وهو على قناعة أنه الأبقى وأظنه أنه نجح في ذلك إلى حدود كبيرة لذلك سيبقى طويلا في الذاكرة وفي القلب أيضا بعد أن يغادر منصبه في يناير من العام المقبل السطر الأخير: سافرت عنك طويلا فافتحي مرافئك كي أمتطي صهوة الشعر بعينيك