26 سبتمبر 2025
تسجيلمنذ 67 عاما يتذكر الفلسطينيون كبار السن تلك العاصفة التي أثارها خطاب الزعيم الحبيب بورقيبة الذي ألقاه في أريحا عندما كانت الظروف مختلفة تماما عن ظروف اليوم ولم تندلع بين العرب وإسرائيل أية حرب جديدة منذ حرب 1948 لقد عشت توابع ذلك الزلزال حين ألقى الرئيس التونسي خطابه الشهير في مخيم أريحا وكان يقوم بجولة في تسع من دول المنطقة شرع يخطط له منذ شهر ديسمبر 1964 على إثر مقابلته مع الزعيم المصري جمال عبد الناصر وأتذكر أن بورقيبة قال لنا في لقاء بالصحفيين وكنت مبتدئا مبكرا في الصحافة بعد سنوات من الحدث إن ما طمأنه وشجعه على الإصداع برأيه هو ما سمعه من عبد الناصر من موافقة بل وتحفيز ثم بدأ رحلته المشرقية من 18 فبراير إلى 15 مارس 1965 وحلل برؤية المناضل العربي المجرب المعوقات والأخطاء العربية التي أدت بالفلسطينيين إلى تلك الحالة من الاحتلال والتشرد واقترح أن يأخذ أبناء الشعب الفلسطيني مصيرهم بأيديهم وأن لا تغرهم الشعارات الحماسية حتى يخططوا للنصر بالعقل والحكمة والاستعداد دون التفريط في الأصل وقال في ذلك الخطاب: حذار من أن تكون فلسطين هي الأندلس الثانية. وللتاريخ فإن الزعيم التونسي الحبيب بورقيبة كان أول من فهم وفكك اللعبة السياسية والإستراتيجية العالمية قبل غيره فيما يتعلق بالملف الفلسطيني حين ألقى خطابه الشهير بمخيم أريحا في 11 مارس من عام 1965 وعرض خلاله الحل الذي يوازن بين الحق والواقع أي بين الحفاظ على الوطن بالكفاح المسلح والدبلوماسية بالتمسك بالشرعية الدولية المتمثلة في قرار التقسيم 29 نوفمبر 1947 وبذلك مثلما قال بورقيبة نضع إسرائيل خارج الشرعية. والذي حدث مع الأسف بعد ذلك هو شتم بورقيبة واتهامه بالتهم العربية الجاهزة. واليوم بعد زمن معقد وطويل من خطاب أريحا نجد بعض العرب في غفلة من الحقائق الجديدة والتحولات الراهنة في العالم، لا يزالون لا يفرقون بين الحق والواقع، ويطالبون بالمستحيل عوض المطالبة بالممكن الآن وتأجيل ما هو غير ممكن للغد أو لما بعد الغد دون التفريط في الحق، لأن السياسة هي في النهاية فن الممكن، والتفاوض مع العقبات والمناورة المشروعة من أجل إحباط مخططات الخصم والعدو. ولعل الاحتقان المؤقت الذي يعرقل الشعب الفلسطيني بعد تباطؤ المصالحة بين الإخوة في الضفة والقطاع هو احتقان سببه الأول عدم التفريق بين الغاية الأساسية الإستراتيجية والوسيلة الملائمة لبلوغها وهي المسماة بالتكتيك أي التخطيط السياسي الذكي مرحلة مرحلة وخطوة خطوة. فالمجاهدون في الجهاد وحماس لهم نفس الغاية التي يسعى إليها محمود عباس بالضبط إستراتيجياً لكن الاختلاف وحتى الخلاف هو في التكتيك أي المرحلية والعقلانية واستعمال العقل والبصيرة. في أعقاب عودة الحرارة لمبدأ المصالحة الفلسطينية باجتماع المناضلين من فتح وحماس وجميع الفصائل وبداية تشكل وحدة حقيقية حول الأهداف المشتركة نشأت في العالم العربي ولدى الرأي العام العربي حقيقة جديدة مخيفة وهي أنه بتراكم المصائب بعد إجهاض الربيع العربي واستفحال ظاهرة داعش وخطورة الوضع السوري وحروب الفصائل في ليبيا وتعقد الوضع في العراق ومخاطر انقسام اليمن وعدم الاستقرار في أغلب الشرق الأوسط فإن منزلة القضية الجوهرية للعرب أي فلسطين بدأت تتراجع بل ولا تحتل الصدارة لدى الدول العربية نفسها فما بالك بالدول الأخرى وأعداء العرب وهو ما مكن نتنياهو من ابتزاز الولايات المتحدة والتلاعب على وتر انقسام القرار الأمريكي بين البيت الأبيض والكونجرس في زيارته الأخيرة التي دعا فيها للحرب على إيران وزعزعة ما تبقى من أمل في العالم العربي والإسلامي كما أن جامعة الدول العربية مغيبة وشرعت إسرائيل الظالمة تراجع مواقفها وتتموقع دوليا على ضوء هذا التشرذم العربي وقد كتب عدد من المراقبين مقالات وأبدوا آراء وأعلنوا مواقف كان أغلبها يدور حول هذه المحاور الثلاث المتداولة في القضية الفلسطينية وهي الحق والحلم والممكن، مهما اختلفت الرؤى والتحليلات، ومن هؤلاء إسرائيليون مثل كاتب سيرة الرئيس الراحل ياسر عرفات (أمنون كابليوك) والشريك في مؤتمر جنيف/ يوسي بيلين، وهما من بين المثقفين اليهود الأكثر تفهما للقضية الفلسطينية والأشد دفاعا عن الحق الفلسطيني إزاء الغطرسة الإسرائيلية. وأعتقد صادقا مع نفسي بأن الرموز الثلاثة المذكورة أي الحق والحلم والممكن هي التي علينا جميعا نحن العرب تحليلها والنقاش حولها ومن ثم تحديد أولويات الخروج من عنق الزجاجة الذي حوصرنا فيه منذ عهد النكبة 1947 تاريخ إنشاء دولة إسرائيل وما أعقبها من كوارث. فالحق الفلسطيني هو اليوم في منظور المنظومة الدولية الحق المعترف به في نطاق القانون الدولي المنبثق عن قرارات منظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن والذي بالطبع يهضم حقوقا للشعب الفلسطيني، وجاء جيلان جديدان ما بعد النكبة، ليكتشفا على الميدان في الشرق الأوسط، واقعا جديدا مختلفا فرض فيه العالم كله على العرب دولة طارئة هي إسرائيل، أقول العالم كله لا الولايات المتحدة فقط، لأن الاعتراف الدولي بإسرائيل منذ 1947 جاء من موسكو ومن أنقرة ومن باريس ومن نيودلهي قبل أن يأتي من واشنطن، ولأن أغلب الدول الكبرى الفاعلة في الشرق الأوسط كانت تضمر عكس ما تعلن. وفي هذا المناخ العربي المهدد بالانفجارات المختلفة نحيي اليوم ذكرى خطاب بورقيبة في أريحا وهو الخطاب الذي لو استمع إليه العرب لما خاضوا حروب 67 و73 ولما اضطر الفلسطينيون أن يكتفوا اليوم بحدود 1992 بعد أن كانوا يطالبون بحقوقهم المشروعة بحدود 1947 و1967. فإن الزعيم التونسي الحبيب بورقيبة كان أول من نبه العرب من غفلة التاريخ وأذكر للتاريخ أن الزعيم بورقيبة قال لنا وكنت من بين العاملين معه في الثمانينيات: "لقد خدعني الزعيم عبد الناصر غفر الله له حين عرضت عليه أفكاري قبل خطاب أريحا فقال لي آنذاك: "إنه الحق إنما قله أنت" ممكن لأنني رئيس دولة متشابكة مع إسرائيل". وأضاف بورقيبة بمرارة: لقد ضيع العرب فرصة تاريخية أخرى. رحم الله الجميع وغفر لهم بعد أكثر من 67 عاما ولكن ليعتبر العرب ويا رب رحمتك وعفوك للعرب في هذا الإعصار القادم.