14 سبتمبر 2025
تسجيلبعد الاستطلاعات الإسرائيلية حول الحرب على غزة، ظهر أن غالبية الإسرائيليين مع استمرار الحرب بهدف القضاء على المقاومة الفلسطينية، حتى وإن كانت هذه الحرب تكلف آلاف الأبرياء الفلسطينيين!! ويطرح البعض من الباحثين المهتمين بالفكر الصهيوني أن الصهيونية حققت أهدافها على الصعيد القومي بعد ما تمكنت من جعل الشعب اليهودي شعباً عادياً له دولة ـ أمة مثلها مثل سائر الدول المنتظمة في العالم الجغرافي السياسي المعاصر، كما أنه لم يعد من الممكن " رمي دولة إسرائيل في البحر" بعد ما تمكن جيشها من سحق الجيوش العربية المجاورة على نحو مذهل.وعليه فإن وضع إسرائيل قد استتب، وترسخت مكانتها في المنطقة، وبالتالي فقد آن الأوان لاتخاذ تدابير تتجاوز المفاهيم الصهيونية التقليدية، وتؤدي إلى تحقيق السلام مع المحيط العربي.لكن البعض ينكر وجود مثل هذا التيار في إسرائيل وتأثيره سيكون مستحيلاً في مجتمع قام على أيديولوجية صهيونية توسعية، وأن مقولات [ نهاية الصهيونية] أو ما بعد الصهيونية صيحات أطلقها المتطرفون من اليهود، وآخر هؤلاء الذين تحدثوا عن انتهاء الصهيونية كان بنيامين نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل الحالي الذي قال بعد فوز باراك أواخر التسعينيات إن "الصهيونية تنزل راياتها"!.والهدف هو تحريك المشاعر الصهيونية بعد خسارة بعض الأحزاب اليمينية في الانتخابات في العقدين الماضيين، والحديث عن مخاطر "نهاية الصهيونية" على وجود إسرائيل ذرائع ذات أهداف توسعية، ذلك أن المجتمع الإسرائيلي يكون أكثر تلاحماً في لحظات الحرب والتوتر، وأكثر تفككاً في لحظات الهدوء والسلام. فقد تبين من خلال بعض الدراسات أن هذا الكيان المصطنع لا يستطيع التوازن والاستمرار، من دون ممارسة العدوان للتخلص من فائض التوتر الداخلي وإلقائه في الخارج.ولا شك أن إسرائيل لا تعاني من أزمة أمنية إستراتيجية، وأن أي حديث على هذا الصعيد إنما يعتبر من باب التهويل، وفيه الابتزاز المالي والعسكري.والذي حصل في مفاهيم ناقدي الحركة الصهيونية ـ كما يقول د/ معين حدادـ إن السوسيولوجيين الإسرائيليين في دراساتهم الجديدة، تحت تأثير التطورات الأبستمولوجية للعلوم الإنسانية التي عرفها العالم الغربي، حيث قام فيه باحثون بأعمال جاءت نتائجها بمثابة ثورة قلبت المقاييس السائدة المتعلقة بالمركزية الأوروبية أو الغربية والمفاهيم الخاصة بهذه المركزية، مثل "التنوير" و"العقلانية" و"الحداثة" و"ما بعد الحداثة" وغيرها مما كان يعتبر من المسلّمات البديهية ـ كما يعتقدون ـ وتعرض مفهوم "التقدم" للمراجعة والنقد، ولم يعد على ما كان عليه حين كان يعني أن العالم يتطور نحو الكمال وفق عملية أحادية الاتجاه، وأن المجتمعات تتراتب في سلم يعتليه العالم الغربي بما هو نموذج واجب احتذاؤه. وعليه فقد أدى سقوط "المركز" إلى إعادة اعتبار "الآخر"، وبالتالي التعامل مع هذا الآخر على نحو إيجابي.ولما كان الوسط الأكاديمي الإسرائيلي جزءاً لا يتجزأ من الوسط الأكاديمي الأوروبي والغربي، فقد برز من بعض الإسرائيليين من راح يعمـل في اتجاه تقويم ثقافة الآخر، الأمر الذي يؤدي إلى الحض على الأخذ بمبادئ التنوع والاختلاف والتجاوز وسائر مكونات ما اصطلح على تسميته "ما بعد الحداثة".صارت الدراسات الاجتماعية والسياسية تركز على التعدد الثقافي في الواقع الإسرائيلي، وفق منهج تفكيكي يهدف إلى الكشف عن الدور الذي اضطلعت به المؤسسات الرسمية في عملية بناء الأمة والدولة على حساب الحرية بعد ما عمدت هذه الدولة ـ إسرائيل ـ إلى تغييب كل ما من شأنه أن يؤدي إلى ما يشبه النقد الذاتي.وهذه الآراء تجد السخرية والتهجم من بعض الأكاديميين والمؤثرين في صنع القرار في الكيان الإسرائيلي، ويعتبرون مقولة "ما بعد الصهيونية" مجرد ترف فكري، لا تيار واسع في المجتمع الإسرائيلي.فقـد تمكن اليمين الإسرائيلي من السيطرة فكرياً على قطاع كبير وعريض في إسرائيل، وفي سياق توظيفاته السياسية مضى الخطاب الإسرائيلي اليميني في إنكار تأثر الصهيونية بصدمة التحولات الفكرية والسياسية حتى أن الكاتب الإسرائيلي "آري شفيط" ذهب إلى خلع أوصاف عجائبية على الحركة الصهيونية وفكرها معتبراً " أنه من بين كل الأحلام الكبيرة لنهاية القرن الماضي، كان حلم هرتزل الحلم الوحيد الذي تحقق ووقف على قدميه، ومن بين كل الأفكار الطوباوية الغامضة التي أورثها القرن التاسع عشر إلى القرن العشرين، ظلت الفكرة الصهيونية الفكرة الوحيدة التي لم تفشل بعد"!وعلى الإجمال فإن الفكر الصهيوني في خطابه السياسي والعملي بحسب محمود حيدر، يؤول إلى التأكيد على الوصل العضوي بين مهمة الحركة الصهيونية، وبين دولة إسرائيل مهما حصل من تحولات راديكالية في أنظمة القيم في العالم. لذلك فإن الحدود الفاصلة بينهما ضرورية لإعطاء الفعالية لوظيفة واختصاص كل من الدولة والحركة في أداء مهماتهما التاريخية على الصعد المختلفة، حيث إن المهمة الملقاة على عاتق الصهيونية هي ـ كما يقول يعقوب حسدائي ـ "السعي من أجل الوصول إلى الشعب، لاسيَّما الشباب عن طريق القيادة الروحية من أجل تعميق التضامن اليهودي وإضفاء تعبير عملي إنجازي على هذا التضامن بوساطة هجرة غايتها المساهمة في استكمال إنجاز المشروع الصهيوني بأكبر قدر ممكن من العمل المنظم".ولئن كانت فلسفة القوة هي علة الصهيونية وإسرائيل معاً، فهي في مقولة الأرض ومفهوم الجغرافيا والملجأ المفتوح أمام يهود العالم الوعاء الذي تصب فيه.فمنطق القوة هو الجذر الفلسفي العملي لآليات تحقق الفكرة الصهيونية منذ استيلائها على فلسطين، بينما إسرائيل هي التجلي الفعلي لمنطق هذه الفكرة.