14 سبتمبر 2025
تسجيلتوفي منذ أيام قليلة في بيته في قرية (شنيفير) بضواحي باريس الفيلسوف والمفكر الفرنسي المسلم رجاء جارودي وهو صديق عزيز رحمة الله عليه ربطتني به علاقة فكر ومودة منذ عام 1978 حين كنت أشغل مسؤولية في إحدى مؤسسات النشر بباريس (دار جون أفريك للنشر) وكلفتني مديرة الدار أن أتابع إعداد وطبع كتاب (حوار الحضارات) لكاتبه (روجيه جارودي) قبل أن يشهر الرجل إسلامه. ولم أكن أجهل هذا الاسم بالطبع لأني كنت شغوفا بمعاركه السياسية داخل الوسط الفرنسي والدولي. فجارودي كان عضوا بارزا في أعلى هيئة بالحزب الشيوعي الفرنسي لكنه بدأ في السبعينات ينشق عن خط الحزب الستاليني وينادي بقيمة الحرية ونبذ مبدأ الإلحاد في العقائد الماركسية ثم طرد من هذا الحزب ليستقل بفكره وعقله. وأذكر دخول هذا الرجل لأول مرة إلى مكتبي في دار النشر (8 شارع روكيبين بالدائرة الثامنة بباريس) بقامته الفارعة يلفه في ذلك الشتاء الثلجي معطفه الكحلي وحدثته أنا بصدق وحماس عن إعجابي بالأفكار الجريئة والإنسانية التي قرأتها في كتابه الجديد (حوار الحضارات) ذلك المصطلح الذي لم يكن معروفا آنذاك وما أزال أعتقد أن المفكر الأمريكي صمويل هنتنجتن انطلق منه ليكتب سنة 1992 كتابه الشهير (صدام الحضارات). وتواصلت لقاءاتي بهذا الأستاذ والمعلم وأدركت أنه يكن احتراما عميقا وخالصا للإسلام مع انتقاداته لأوضاع المسلمين واستبداد أغلب حكامهم. وانتهى الأمر بالرجل أن أشهر إسلامه وتفرغ لخدمة القضية الفلسطينية إيمانا منه رحمه الله أنها مظلمة القرن العشرين وأن الصهيونية تختلف عن اليهودية لأنها تتاجر بمأساة الشعب اليهودي على أيدي هتلر لتفتك بشعب بريء ومسالم. وكتب كتابه المدوي (الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية) سنة 1997 الذي ترجم لثلاثين لغة وأدانته المحكمة الفرنسية وقمت أنا بفضل رعاية كريمة من سمو الشيخة موزا بنت ناصر وبمعية صحيفة الشرق القطرية وحماس فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي والأستاذة الدكتورة عائشة المناعي عميدة كلية الشريعة والقانون بجامعة قطر بتشكيل لجنة عالمية لمناصرة جارودي كان لها صدى واسع في عديد البلدان وزرعت بذور وعي لدى الرأي العام الغربي بحقيقة الصراع العربي الإسرائيلي. ولد جارودي في فرنسا بمدينة مرسيليا عام 1913، وقاوم النازية الألمانية وحمى اليهود المضطهدين وحوكم بالإعدام ونجا برأسه ودافع عن الشعوب المستعمرة والمناضلة ثم انتخب في البرلمان الفرنسي وأصبح نائبا ثانيا لرئيسه في الخمسينيات. وصدر أول مؤلفاته عام 1946، وحصل جارودي على درجة الدكتوراه الأولى عام 53 عن النظرية المادية في المعرفة، ثم حصل على درجة الدكتوراه الثانية عن الحرية عام 54، كما حصل على الدكتوراه الفخرية من جامعة "قونيا" في تركيا وعرف جاردوي من خلال كتبه وأفكاره كواحد من أبرز الفلاسفة الغربيين الذين ظهورا خلال القرن العشرين، وأثار جدلاً واسعاً من خلال كتاباته وأفكاره وانتماءاته الماركسية ثم الإسلامية، ومعاركة التي خاضها فيما بعد مع الأحزاب والأفكار، حتى أشهر جارودي إسلامه في المركز الإسلامي في جنيف عام 82 وكتب كتابين: "الإسلام يسكن المستقبل"و"وعود الإسلام" وحصل بهما على جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام عام 85. وفي عام 82 خاض جاردوي معركته الأولى مع الحركة الصهيونية بعدما نشر مقالاً عن الاجتياح الإسرائيلي للبنان، وخاض سنة 1997 معركته الثانية لنصرة فلسطين مع صدور كتابه "الأساطير المؤسسة لسياسة إسرائيل" والذي حوكم بسببه أمام إحدى محاكم باريس حسب القانون الفرنسي الغريب المسمى باسم (غايسو) البرلماني الذي سنه منذ سنوات وهو يقضي بتجريم كل من يشكك في محرقة اليهود أثناء الحرب العالمية الثانية. وقد صدر لجارودي 53 كتاباً كان آخرها "الولايات المتحدة ومواجهة الامبراطوريات الزائفة" الذي صدر بالعربية بترجمتي أنا من الفرنسية.. وفي آخر زيارة لي لأعوده وهو طريح الفراش في بيته فاجأني بأنه لم يستسلم للباطل الصهيوني ولم يهادنه بل إنه يعد الآن كتاباً جديداً قال عنه: إنه سيكون قنبلة مدوية في مواجهة الحركة الصهيونية التي يقول إنه أعلن الحرب عليها حتى النهاية وقد بلغ عدد رسائل الدكتوراه التي أُعدت في جامعات العالم المختلفة عن فكر جارودي حتى الآن 25 رسالة. وآخر قولي للصديق الراحل: جزاك الله خيرا عن العرب وسامحهم عن التقصير في حقك فذلك شأنهم دائما إزاء من يناصرهم.