16 سبتمبر 2025
تسجيلولد عبدالله ذو البجادين، في مكة المكرمة، يوم كانت لا تزال في ظلمات عهد الكفر والشرك، قبل أن يأتيها الفتح المبين، من رب العالمين، على يد رسوله الأمين، ولد لرجل من مُزينة يقال له عبد نَهْم، فرح هذا الوالد بمقدم ولده فرحا كبيرا، وشكر الآلهة وأثنى عليها، التي رزقته من الله ذلك الوليد، فرأى أن يسميه عبد العزى.كان ذلك الوالد فقيراً معدِما، يسعى في كل يوم جاهداً مجتهداً، كي يكفل لنفسه، ولمن يعول الغذاء والكُسوة، وما يحتاجون إليه من ضرورات الحياة، ظل على ذلك مدة من الزمن وابنه عبد العزى، لا يزال طفلا صغيرا لا يعي شيئاً، لكن القدر من السماء شاء أن يموت الوالد، ويَذَر طفله يتيما فقيرا، لم يورّثه وأمَه مالا يكفيهما الحاجة إلى الناس، ويضمن لهما الغنى عنهم.لَطف الله بذلك الطفل الصغير، وقيَّض له عمه الذي كان موسراً كريما، فكفل ابن أخيه كفالة حسنة طيبة، ونشأ في كنفه، يكرمه وينعم عليه، ويرعاه كأنه واحدٌ من أبنائه، لا يمنع عنه شيئاً، ولا يؤثر عليه أحداً، حتى شب عبد العزي، وهو لم يذق شيئاً من مرارة اليتم وقسوته، ولم يحس شيئاً من شدته وعنته.كان عبد العزى يسمع في مكة كثيراً عن دعوة الإسلام، ويسمع أكثر من أحاديث الناس المتشعبة المختلفة ذات الشجون، عن رسول الله محمد، الذي هاجر إلى يثرب واتخذها موطنا يقيم فيه مبادئ وأركان وتعاليم الدين الموحى إليه من الله، وقد علم أن أناسا كثيرين قد اتبعوه والتفوا حوله، يؤيدونه وينصرونه، وعلم أنهم فريقان، مهاجرون وأنصار، وسمع ثم سمع صدقا، وعلم ثم علم حقا، وإذ ذاك قام في نفسه صراع عنيف، ودار في خَلَده جدال طويل، بما يشبه الثورة العارمة، التي لا يستطيع كبح سَوْرتها، ولا كفَّ لأْوائها، كانت تدفعه نحو التفكير الذي لا يعرف له حدّا، وتحمله على التغير الذي لا يرى له بداً، كل ذلك كان يُشعره بالهم والقلق والانزعاج، وهكذا استمر به الحال، بحيث لا يهدأ له بال، ولا يرى لنفسه راحة، لا بالليل ولا بالنهار، مدة من الزمان، حتى قدّر لنفسه أمرا، لا يرجع عنه أبداً.لم يرَ عبد العزي مناصاً من مكاشفة عمه، ومصارحته بما في نفسه، وبما نوى عليه وعزم، من اتباع دين الإسلام، والهجرة إلى الرسول الكريم، بعد أن طوى هذا الأمر في نفسه طويلاً، وكان لا يحمل هما لشيء، إلا هم استجابة عمه الأثير عنده.بينما كان عمه في الدار، رأى عبد العزى أن يطلعه على دخيلة أمره، فقال: يا عمِ إني قد انتظرت إسلامك مليّا، فلا أراك تريد محمداً، فأذن لي في الإسلام والهجرة. فصاح عمه في وجهه قائلاً: ماذا تقول يا عبد العزى؟ ماذا تقول يا بن أخي؟ يا ويحَ نفسِك؟أبعد أن أكرمتك ونعَّمتك، ولم أوثر عليك أحدا من عيالي، ولم أمنعك شيئا من أموالي، تريد أن تتركني وتهجرني، وتفارق دين آبائي، وتلحقَ بمحمد، فتتبع دينه الجديد. وبحق الآلهة جميعا، إن لم تنثنِ وترتدع عما تريد من اتباع محمد، لأجرّدنّك ولأحرمنك من كل شيء أعطيتك إياه، حتى لا أترك في يدك شيئاً إلا نزعته منك، حتى ثوبك الذي عليك.أجابه عبد العزى، بسكينة ورباطة جأش: يا عماه، يا أخا أبي، افعل ما بدا لك، وخذ كل ما تملك يدي، والله لا تجدني إلا صابرا، مستغفرا لك، مشفقاً عليك.كانت أمه شاهدة وموافقة على رأي عمه، لا ترى ما يراه ابنها، ولا تؤيده عليه، فما كان من العم، إلا أن فعل ما قال وما أوعد، تماماً على الذي قال، وترك ابن أخيه سليبا عاريا في البيت، إلا قليلا مما يستر السوءة، وزادت أمه على ذلك، بأن قالت: وأنا سأحبسه في البيت، وأمنع عنه الخروج حتى يعدل عما أراد.بقي عبد العزى على حالته تلك أياما، لم تزده إلا عزيمة وإصرارا، على الهجرة واللحاق برسول الله، وحلف ألا يأكل ويشرب، إن لم يخلوا بينه وبين ما اختار لنفسه، ولما رأت أمه منه ذلك، وأدركت أن ليس ثمة قوة ولا سلطان، يمكن أن يؤثر فيه، ويفلَّ تصميمه الحديد، يئست، من محاولة منعه وصده، وقال لها قلبها الذي هزته مشاعر الرقة والعطف: إن لم تدعيه وشأنه فسيموت لا محالة، ولا يمكن أن يعود عما صمم عليه. فكان منها أن أطلقته وقالت له: سرْ حيث شئت، وخذ هذا البِجاد – كساء غليظ- ثوبا لك. فأخذ منها البجاد فرحا مسروراً، وشكر لها وقبل رأسها ويدها، ثم إنه شق البجاد شطرين، اتّزر بشطر، وارتدى الآخر، فكانا له إزاراً ورداءً، لم يُرَ على أحد من قبله مثلهما، ثم انسل مسرعا من البيت لا يلوي على شيء مما وراءه، ومما تركه.لا يمكن لأحدٍ أن يعلم ما الذي كان في نفس عبدالله حينئذٍ، وما الذي كان يشعر به وجدانه، غير أن نور الإيمان قد شعَّ في قلبه، وأضاء حناياه، وأوقع في صميم ضميره محبة الله ورسوله، والحب سلطان لا يُغلب ولا يكسر، ولا تزعزعه الظروف والأحوال في الدنيا.ولا يمكن لأحدٍ أيضاً، أن يتصور مبلغ ما لقي في طريق هجرته من بأساء وضراء، دونها ما يلقى المسافرون، من وعثاء أسفارهم، فقد لقي ما لقي من عناء، ووجد ما وجد من شقاء، إلا أن الإيمان والمحبة، خففا وطأة ذلك كله، وهوّنا شدته، وأنالاه أيضاً بُغيته، إذ بلغ سالماً المدينة المنورة، مثوى رسول الله. ولا تعجب من فعل الإيمان والمحبة، وما يمنحان من قوة، وما ينيلان من بُغية.حين بلغ المدينة، وهو على سمته ذاك بما عليه من بجادين، قصد المسجد النبوي، واضطجع فيه وقت السحر، يبتغي رؤية رسول الله، ولما رآه بعض الصحابة على هيئته تلك لقبوه بذي البجادين، وأقبلوا يسلّمون عليه ويحيّونه، ويستخبرونه عن شأنه، ثم صلّى رسول الله الصبحَ، وكان عليه الصلاة والسلام، يتصفح الناس إذا انصرف من الصلاة، فنظر إلى ذي البجادين، فأنكره، وقال: من أنت؟ فانتسب له. فقال رسول الله: بل أنت عبدالله ذو البجادين، وابتسم في وجهه، حتى بدت نواجذه، ثم قال: (انزل مني قريبا). فكان عبدالله من أضيافه، وكان يعلمه القرآن، حتى قرأ قرآناً كثيرا.مضت الأيام والشهور الطوال، حتى أدرك عبدالله، يوم تبوك، في السنة التاسعة للهجرة، وخرج في جيش العسرة، لملاقاة الروم، وكان يوم تبوك آخر مشهد لرسول الله في الجهاد، وكأن إلهاما من الله أوحى إلى ذي البجادين، أن يسأل الرسول الكريم، الدعاء له بالشهادة، فيموتَ شهيداً في سبيل الله، فدعا له وقال:(اللهم احفظه من سيوف الكفار)، قال: ما هذا سألت يا رسول الله؟! قال: (إنك إن خرجت غازيا فمُتَّ، مُت شهيداً).ثم إن جيش المسلمين نزل تبوك، واتخذ معسكرا هناك، وأقام أياما، وهو على أتم أُهبةٍ لقتال العدى، إلا أن الله قذف في قلوب الروم الرعب والخوف، فلم يتقدموا لمقاتلة المسلمين، بل تراجعوا وراءهم، وكفى الله المؤمنين القتال، وكتب لهم الظفر من عدوهم بغنيمة باردة.في إحدى الليالي، التي قضاها المسلمون بأرض تبوك، أصابت عبدالله ذا البجادين، حمى شديدة، حُمَّ بها جسده، حتى قضى نحبه، ولقي ربه على أثَرها، راضيا عنه، ثم حدث في تلك الليلة الظلماء وفي معسكر المسلمين ذاك، أن قام عبدالله بن مسعود من الليل، وخرج من خبائه، فرأى شعلة نارٍ تخفق في جوف الليل، في ناحية من المعسكر، فمضى يستطلع شأنها، فإذا به يرى رسول الله، قائما في قبر عبدالله ذي البجادين، يرفع التراب منه، وإذا بأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، واقفين على شفى القبر، ورسول الله يقول لهما:(أُدنيا مني أخاكما)، فوسّده في لحده، وإذ فرغ من دفنه، استقبل القبلة رافعا يديه قائلا:(اللهم إني أمسيت راضيا عنه فارضَ عنه)، وكان عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، حينئذٍ ينظر بحزن ولهفة وذهول وهو يقول:(ليتني كنت صاحب الحفر، يا ليتني كنت). وهكذا شاء الله لذي البجادين، أن يفوز بالشهادة، على ذلك النحو، ولا راد لمشيئة الله تعالى.ليس المجدُ لذةَ عيشِ الفتى، إنما المجدُ أن يموتَ الفتى مكرَّما.