30 أكتوبر 2025
تسجيلحظر النشر في قضية الصحفيين حلقة في مسلسل الرسائل الموجهة إلى الجماعة الوطنية المصرية بأكثر منها إلى الجماعة الصحفية.(١)تقول النكتة إن طفلا عاد من مدرسته باكيا، ولما سأله أبوه المسؤول الكبير عن سبب بكائه، أخبره الطفل بأنه تعارك مع زملائه الذين قرروا الانتقام منه والتشهير به على جدران المدرسة وعبر الفيسبوك، عندئذ ربت الأب على كتف الطفل وطمأنه قائلا: إنه سيصدر قرارا بحظر النشر يحل له الإشكال من أساسه.مثل هذه التعليقات وفيرة على مواقع التواصل الاجتماعي هذه الأيام، وهي تكثر تبعا لزيادة قرارات حظر النشر التي باتت موضع تندر ودهشة، عبر عن شيء من ذلك الدكتور نور فرحات أستاذ القانون الذي كتب على صفحته قائلا: لا تنشروا قرارات حظر النشر، وإنما الأفضل والأكثر واقعية أن تنشر على الملأ قرارات السماح بالنشر.السخرية المرة فيما سبق أو الغمز المهذب لهما دلالة تستوقف أي باحث لتحليل المضمون، ذلك أنهما لا يعبران عن الذكاء الاجتماعي فحسب وإنما يعبران أيضا عن الاحتجاج والانتقاد إزاء استهلاك المصطلح وابتذاله، وليس خافيا أن ذلك حدث بعدما تكرر سوء الاستخدام الذي أفقد المصطلح رنينه وهيبته، وهو ما يسري على قيم ومصطلحات أخرى عبر المجتمع عن استيائه إزاء إساءة استخدامها بالسخرية منها، ولا ينسى في هذا الصدد كيف انتقد المجتمع المبالغة في الإغداق على رجال القضاء والنيابة الذي تزامن مع مرحلة الأحكام المثيرة للجدل واللغط، إذ حينئذ روج المروجون أن قرارا صدر بصرف «بدل شموخ» لهم، الأمر الذي نقل مصطلح «القضاء الشامخ» من مستوى الهيبة إلى مستوى النكتة.(٢)يوم الثلاثاء الماضي (٣/٥) حين غضب الصحفيون المصريون لاقتحام نقابتهم لأول مرة في تاريخها، لإلقاء القبض على اثنين من الزملاء، فوجئت الجماعة الصحفية ببيان صادر عن النائب العام يحظر النشر في قضية الزميلين، باعتبار أن ما نسب إليهما «يمس سلامة وأمن البلاد»، من ثَمَّ أغلق باب الحديث في موضوع القضية أمام جميع الصحف والمجلات القومية والحزبية والمحلية والأجنبية، واستثنيت من ذلك البيانات التي تصدر من مكتب النائب العام بخصوص الموضوع.القرار جاء بمثابة إشهار للبطاقة الحمراء التي فرضت الصمت على الجميع وحذرت الإعلاميين من الكلام في القضية التي فجرت غضب الصحفيين. وكان ذلك أمرا غريبا لا يخطر على البال، فالموضوع كله يخص الجماعة الصحفية ولا علاقة له بأسرار الدولة ولا بالأمن القومي، وحدود القضية والاتهامات التي نسبت إلى الزميلين لم تتجاوز التظاهر أو الدعوة إليه. بالتالي لم يكن هناك ما يبرر الحظر، لا في ملابسات القضية ولا تفصيلاتها، ولأن الأمر كذلك فقد فهم قرار الحظر على أنه دعوة للسكوت واحتواء الموضوع كله، سواء في شقه المتعلق بقضية الزميلين، أو في ملابسات حصار النقابة واقتحامها بواسطة الشرطة أو حشد البلطجية وأرباب السوابق للتظاهر أمام النقابة دفاعا عن الداخلية والحكومة أو لمهاجمة الصحفيين والاعتداء عليهم.حين صدر قرار الحظر قلت إنه تضمن بطاقتين وليس بطاقة واحدة، واحدة حمراء تخص قضية الزميلين، والثانية صفراء تخص الجماعة الصحفية، الأولى كانت دعوة للصمت والثانية كانت إنذارا للصحفيين دعاهم إلى «لملمة الدور» كما يقال. وهو ما أثبتته الأيام اللاحقة، لأن الإشارات التي تلقتها الصحف من الجهات المعنية خلال تلك الفترة كانت تفعيلا لمضمون البطاقة الصفراء، وتبين بعد ذلك أنني كنت متفائلا وحسن الظن، لأن ما حدث كان أبعد وأفدح، إذ تبين أن حظر النشر كان مقدمة لحظر مجلس النقابة والانقلاب عليه، إذ فوجئنا باجتماع لفريق من «الشرفاء» بالمفهوم المبتدع في هذا الزمان، دعا إلى عقد جمعية عمومية لسحب الثقة من مجلس النقابة، لأنه تمادى وتجرأ حين عبر عن غضب الجماعة الصحفية وطالب بمحاسبة المسؤولين عن اقتحام النقابة ورد الاعتبار لها. وإذ لا نعرف كيف سيتطور الأمر بعد ذلك، وما إذا كان سيحدث انقلابا في داخل النقابة أو سيؤدي إلى شق الصف الصحفي، فإن ما يهمنا في السياق الذي نحن بصدده أن قرار الحظر بدا وكأنه جزء من حملة ترتيب الانقلاب المفترض.(٣)منذ بدايات عام ٢٠١٤، كثرت بشكل ملحوظ قرارات حظر النشر، حتى رصد الباحثون صدور ١٤ قرارا بالحظر منذ ذلك الحين إلى الآن. ومن أبرز القضايا التي شملها الحظر ما يلي: قضية قتل الناشطة شيماء الصباغ التي حملت الزهور مع آخرين في تظاهرة سلمية كانت متجهة إلى ميدان التحرير ــ قضية المحامي كريم حمدي الذي قتله أحد الضباط أثناء تعذيبه ــ قضية التخابر مع قطر ــ اغتيال النائب العام السابق هشام بركات ــ قاضي مدينة نصر الذي اتهم في طلب رشوة جنسية ليحكم لصالح سيدة في إحدى القضايا ــ فساد وزير الزراعة السابق ــ المحطة النووية بالضبعة ــ تورط بعض الضباط ورجال النيابة في الفساد وتهريب الآثار ــ اختطاف أحد الضباط في شمال سيناء ــ اتهام رئيس هيئة الموانئ ببورسعيد بعد ضبطه متلبسا بالرشوة ــ قضية المستشار هشام جنينة رئيس جهاز المحاسبات السابق بعد البيانات التي أعلنها بخصوص إهدار المال العام.. إلخ.المدهش في هذه القائمة أن الباحث لا يستطيع أن يجد في عناوينها ما يمكن أن يوصف بأنه تهديد للأمن القومي، الأمر الذي يؤيد ما ذكره عدد غير قليل من الخبراء القانونيين من أن حظر النشر أصبح في حده الأدنى غطاء قانونيا لحجب المعلومات ولا علاقة له بمتطلبات الحفاظ على الأمن القومي، وهو العنوان الفضفاض والمطاط الذي أصبح يتسع لما لا حصر له من التأويلات. ولدى الحقوقيين من النشطاء مادة وفيرة في نقد إساءة استخدام فكرة الحظر على نحو إفراغها من مضمونها الحقيقي، وعلى من يريد الاستزادة في ذلك أن يرجع إلى إصدارات الشبكة المصرية لحقوق الإنسان والمجموعة المتحدة ومركز القاهرة لحقوق الإنسان.أضيف إلى ما سبق أن حظر النشر لم يستخدم فقط لحجب المعلومات في أمور لا علاقة لها بالأمن القومي، لكنه وظف أيضا لتصفية الحسابات مع أشخاص رفع عنهم الرضا وأريد الإيقاع بهم وتشويههم. وذلك كان شديد الوضوح في قضية المستشار جنينة الذي انفتح الباب على مصراعيه للتنديد به وتوجيه الاتهامات إليه، وحين بدأت الحقائق تتكشف وجاء الدور على الرجل لكي يرد على ما نسب إليه فطلب أن يناقش الموضوع في جلسة علنية بمجلس الشعب، حينئذ صدر قرار حظر النشر، وهو ما فهم منه أن تشويهه كان مطلوبا للتمهيد لعزله في وقت لاحق (وهو ما حدث) أما إظهار الحقيقة فقد كان مرفوضا، وهو ما تكفل به حظر النشر.(٤)السؤال الآن هنا: هل يخدم دولة العدل والاستقرار أن يوضع حظر النشر في موضعه بحيث يعلن النائب العام على الملأ الأسباب التي تدعوه إلى فرض الحظر، أم تطلق يده في الحظر بحيث يصدره دون حيثيات مستلهما في ذلك اتجاهات الريح السياسية؟ ــ ردي السريع على السؤال أن إيراد أسباب الحظر يخدم حقا دولة العدل، أما إخفاء الأسباب والاستمرار في إطلاق يد النائب العام ليقرر الحظر من جانبه دون حيثيات فإنه لا يخدم دولة العدل وإنما يظل من متطلبات دولة الأمن.إن الدستور ينص في المادة ٦٨ على أن «المعلومات والبيانات والإحصاءات والوثائق الرسمية ملك للشعب، والإفصاح عنها من مصادرها المختلفة حق تكفله الدولة لكل مواطن، وتلتزم الدولة بتوفيرها وإتاحتها للمواطنين بشفافية». وهذا النص وحده كفيل بإبطال أغلب أوامر حظر النشر، لسبب جوهري هو أنها تتناقض مع مضمونه وتصادر الإفصاح عن المعلومات وتهدر الحق في المعرفة الذي يوفره للمواطنين.لا أجد في تحرير هذه النقطة أوفى مما ذكره رئيس محكمة القضاء الإداري المستشار يحيى دكروري نائب رئيس مجلس الدولة، في حيثيات قراره إلغاء قرار النيابة العامة بحظر النشر في الحكم الذي أصدرته في ١٩ يناير الماضي في قضية تزوير الانتخابات الرئاسية التي أجريت عام ٢٠١٢. ذلك أن المحكمة وجهت انتقادات حادة لسياسة حظر النشر في قضايا الرأي العام. إذ ذكرت في قرارها الذي عرضه الزميل محمد نابليون في جريدة «الشروق» يوم ٦ مايو أن «الأخبار والمعلومات التي تخص الشأن العام تعتبر من أدوات تشكيل الرأي العام، وأن للمواطنين ولوسائل الإعلام الحق في اللجوء لمصادر المعلومات الصحيحة للحصول عليها وتداولها ونقلها، وإجراء النقاش والجدل حولها، ليشكل كل مواطن رأيه في الشؤون العامة على هدى من نور الحقيقة ودون حجر على حرية الفكر». وأوضحت المحكمة أن «محتوى الإعلام يؤثر في الرأي العام، فإذا كانت مادة الإعلام صحيحة وصادقة في أخبارها ومعلوماتها أدرك الرأي العام حقيقة ما يجري إدراكا سليما، أما إذا حرمت وسائل الإعلام من المعلومات والأخبار الصحيحة فإن ذلك ينعكس سلبا على الرأي العام».حذرت المحكمة أيضا من مغبة التوسع في حظر النشر وفتح أبواب الشائعات والأكاذيب، فقالت إن «كل مساحة تخلو في وسائل الإعلام من المعلومات والحقائق تمتلئ بالأكاذيب والأضاليل، وكل خصم من العلم الصحيح بالحقائق يؤدي إلى زيادة الجهل والانتقاص من الوعي العام، ويؤدي إلى عدم مصداقية وسائل الإعلام ويصرف الناس عن متابعة الشأن العام، كما يجرد وسائل الإعلام من تأثيرها الإيجابي في الدفاع عن حقوق وحريات المواطنين وتبني قضاياهم». كما دافعت المحكمة عن حق المواطنين في المعرفة والمعلومات، مؤكدة أن «كل تقييد لحق المواطنين ووسائل الإعلام في الوصول إلى المعلومات الصحيحة والأخبار الصادقة على غير سند من القانون وبدون مبرر يستند للمصلحة العامة، يعد مخالفا للدستور ويهدر الحقوق التي أقرها للمواطنين ووسائل الإعلام».لا يعيب هذا الكلام سوى أنه رأي قانوني يتكئ على الدستور وينطلق منه، وإذا أدركنا أن الأمر فيه من حسابات السياسة والأمن أكثر ما فيه من استحقاقات الدستور والقانون، فإن ذلك يقنعنا بأن ما ذكره المستشار دكروري خارج الموضوع. من هذه الزاوية يبدو حظر النشر خطوة على طريق حظر المظاهرات وحظر السفر على البعض والإصرار على إغلاق مركز النديم لمساعدة ضحايا التعذيب والانقضاض على المنظمات الحقوقية المستقلة. وإذا صح ذلك فإن المشكلة تغدو متجاوزة حدود الجماعة الصحفية، وموجهة بالأساس إلى الجماعة الوطنية المصرية حاملة شعارات دولة العدل التي بشرت بها ثورة يناير ــ لذا لزم التنبيه والتنويه.