12 سبتمبر 2025

تسجيل

في مسألة الدولة والتجربة التاريخية

10 مايو 2015

بعد الربيع العربي، وما تلاه من تحولات من تغيرات ديناميكية في الحياة الديمقراطية في العديد من الدول العربية،ناقشت بعض الأقلام التجربة النبوية بشكل أعمق، وأوفى سواء في الفترة التي هاجر فيها الرسول (ص) إلى المدينة، ثم في فترة الخلافة الراشدة ، أو أنها لا تريد أن تقول عكس الواقع كما تحقق في ذلك العصر ، وأنها ربما ترفض ذلك لأسباب فكرية وأيديولوجية، والحقيقة أن هذه المقولات ليست جديدة، فقد طرحها العديد من المستشرقين في ظروف كثيرة لأسباب لا تخفى على المتابع الحصيف، وشايع هذا الطرح بعض من أبناء جلدتنا ممن تأثروا بالفكر الاستشراقي، وقد تراجع بعض هؤلاء عن هذه النظرة، ولا يزال البعض يردد هذه المقولة بين الفينة والأخرى،والواقع أن الدولة في العصر الأول الإسلامي قامت ككيان ضمن الاجتماع السياسي الإسلامي الأول في المدينة،ثم أفضى إلى دولة كاملة في أنشطتها المتعددة ، كما تحقق لهذه الدولة العقد الاجتماعي السياسي لهذه الأمة من خلال دستور ( صحيفة) المدينة التي جمعت سكانها جميعا، والذي يؤسس لحقوق المواطنة الكاملة بمقاييس عصرنا، ويحدد الحقوق والواجبات لهذا المجتمع المدني الإسلامي الوليد في ذلك العصر .ولم تقتصر مواد هذه الصحيفة على المسلمين فقط ، بل ضمنت أيضاً الطوائف والتكوينات الأخرى من غير المسلمين كاليهود وغيرهم من أتباع الديانات الأخرى، واعتبرتهم أمة واحدة من دون الناس ، ولذلك نصت هذه الوثيقة الدستورية على اعتبار اليهود المقيمين في المدينة من مواطني هذه الدولة الوليدة ، وحددت مالهم من حقوق وما عليهم من واجبات، كما تضمنت الصحيفة تنظيما للمسؤوليات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وتجاهلت هذه الصحيفة نظام القبيلة ضمن بنودها، بما يجعل الجميع أمة واحدة، يتناصرون بينهم وفق رباط هذا العقد الاجتماعي، ولم يميز المسلم وغير المسلم في هذا الدستور، وهو مبدأ رفيع سبق الإسلام كل النظم التي سبقته في تقرير المواطنة دون اعتبار للدين أو القبيلة أو الانتماء العرقي. والدولة في الاصطلاح السياسي المعاصر، هي مجموعة من الناس تستقر في أرض معينة، أو حيز جغرافي محدد، وتعيش في ظل سلطة منظمة تخضع للقانون، وهذا ما حصل للدولة النبوية الأولى عند قيامها في المدينة، وأن أفرادها كانوا يخضعون للقانون والسلطة تحاسبهم، وهناك الكثير من الوقائع التي مورست فيها تطبيقات التشريع، باعتباره من ممارسات الدولة وسلطتها الآمرة . صحيح أن الإسلام الذي أنزله الله سبحانه وتعالى لهذه الأمة، جاء ليقيم الدين في الأساس، وهداية البشر،وتنمية الإنسان على الأخلاق والسلوك والقيم إلخ: لكن هذا الدين ليس عقيدة فحسب،بل إن الوحي الإلهي جاء بتشريع مع هذا الدين ليتم تطبيقه على هذه الأمة، وهذا التشريع لا بد من دولة وسلطة تنفذه وتطبقه، لتنظيم العلاقات بين الناس ، والفرد في هذا المجتمع المسلم الذي يضمه مع بقية الإفراد الآخرين لا يمكن أن تنظم حياتهم دون سلطة سياسية قاهرة تقوم بالضبط الاجتماعي،وهذه السلطة القانونية لابد لها من نظام سياسي من خلال دولة، وهذه التشريعات المنظمة تعددت في مجالات كثيرة،مثل جرائم الحدود ،وإنفاذ الأحكام الشرعية المنصوص عليها في القرآن الكريم أو في السنة ، أو في الإجماع كنظام المواريث والأسرة ومبادئ التعامل من رضا واختيار ونحوهما . وطرق الإثبات والقضاء ، ونظم السلم والحرب ، ونحو ذلك مما يتصل بالتزام واجتناب النواهي ،واحترام مبدأ الشورى والعدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والوفاء بالعهود والعقود والالتزامات ، والحفاظ على الحقوق ، وتحقيق الأمن ، ودفع الأذى والضرر ومنع الظلم وجهاد الأعداء ، وسد الذرائع إلى الفساد ، وحماية الأنفس والأموال والأعراض الخ:. إذن الدولة في ظل هذه النظم والتشريعات تعتبر ضرورة لازمة، تستلزم تأسيس دولة،وهذه الدولة نمت وتوسعت بنمو دعوة هذا الدين وانتشاره وتوسعه في الآفاق ، وتعتبر هذه الدولة أقدم صورة معروفة إلى اليوم في تاريخ الإنسانية باعتبارها صورة تاريخية ، من صور المجتمع السياسي . وذلك بفضل تميزها عن غيرها من المجتمعات السياسية التي سبقتها في الوجود ، أو التي كانت معاصرة لها بتقرير مبدأ الشرعية ، أي مبدأ خضوع الدولة للقانون ، ذلك أن الدولة باعتبارها صورة من صور المجتمع السياسي ، كما يشترط لقيامها توافر العناصر المادية الثلاثة ( الشعب ـ الأرض ـ السلطة ) فإنه يشترط لكي يعد مجتمع ما " دولة " ، أن يتوافر كذلك عنصر معنوي هو أن تكون السيادة في هذا المجتمع للقانون . بمعنى أنه كما يخضع الأفراد للقوانين التي تصدرها السلطة المختصة في الدولة ، فإن مؤسسات الحكم والإدارة تخضع كذلك للقوانين ، وتتحمل تبعة الإخلال بها ،كما يتحملها الأفراد سواء بسواء. كما أن الدولة في العصر الأول الإسلامي، مارست كل مجالات الاجتماع السياسي،ولم تترك شيئاً مما تمارسه الدولة اليوم ، أو كانت تمارسه الدول في القديم إلا مارسته، كما يشير د/ محمد سليم العوا ، فقد حاربت وسالمت، علمّت وقوّمت وهذبت، جمعت الضرائب والأموال أو جمعت الزكاة والصدقات ووزعتها على المحتاجين.بَنَت للمنكوبين، أرسلت البعوث تبشر بما تدين به من عقيدة، واستقبلت البعوث من الملوك والأمم المجاورة لها تسمع رأيها وكلمتها. لم تُبقِ شيئاً من وظائف الدولة إلا مارسته، ومع ذلك فقد امتازت عن كثير من الدول التي عرفت بعدها، إلى أن اكتشف الناس سبب هذا التمييز فاقتبسوه منا وجعلوه شعاراً لذلك الكيان الاجتماعي الذي نسميه الدولة, ذلك الامتياز كان مصدره قاعدة عجيبة في ذلك الوقت هي قاعدة تقيد الدولة بالقانون. أما مسألة أن الإسلام لم يؤسس نظرية للدولة، فهذا الرأي مردود عليه، لأن عدم ذكر الدولة في النصوص القرآنية، أو الأحاديث النبوية،فهذا ما أراده الإسلام، ولحكمة ندركها إذا ما نظرنا إلى قضايا عامة ذكرها القرآن لكن لم يحدد طريقتها أو تطبيقاتها، لتكون محل تطبيقات الأمة الإسلامية وفق الظروف والتغيرات الحياتية، مثل مبادئ العدل والشورى وغيرهما من المبادئ العامة ، فلو حدد الإسلام، شكل الدولة والنظام السياسي، فهو بهذا يكون قد جّمد حركة الحياة وتجّددها ،مع تغير الظروف ومعطياتها في حياة الناس،وربما سيعتبر النمط المحدد من النظام السياسي للدولة والسلطة في الدولة الإسلامية في مقام التقديس، وهذا النمط المحدد من النظام السياسي سيديره بشر، مع ما يعتريهم من نقص، وأخطاء وأحيانا تعسف وتجاوز، وسيقود هذا التدبير البشري لكيان الدولة إلى تطبيقات معصومة ، وكأن هذا الفعل البشري مقدس وإلهي لا يجوز رده أو الاختلاف حوله، وهذا ما يجعل ممارسات وتطبيقات ( أولي) الأمر، وكأن أفعالهم مقدسة لا يجوز نقدها أو مراجعتها، وهذا كله سيحسب على الإسلام قطعا عندما تكون هناك أخطاء من هذه الدولة ، وهذه هى الحكمة الإلهية من عدم تحديد شكل الحكم والنظام السياسي المحدد بعد ظهور الإسلام، ولأن الإسلام جاء لهداية البشر في المقام الأول، وهذا ما هدفت إليه رسالات السماء ، فالدولة هي مجرد وسيلة لتحقيق وتنظيم حياة المسلمين وغير المسلمين الذين يعيشون بينهم، فالإسلام حدد الفرائض والواجبات والوفاء بالحقوق ـ أما الدولة فهي ممارسات بشرية وفق المرجعية الإسلامية، وليس لها صفة التقديس أو التوجيهات السماوية . ولعل أصدق تعبير في هذا الصدد، ما قاله المفكر العربي د/ برهان غليون في كتابه [ نقد السياسة.. الدولة والدين] إن "دولة المسلمين ، بما تشمل الدولة من مبادئ التنظيم المدني وطرائقه ووسائله ، وتكوين السلطة (الطاعة ) وتنظيمها وتوجيهها ، أي الدولة كإطار للتنظيم والانتظام الأخلاقي العام ، لم تكن شيئاً آخر في الإسلام إذن سوى الدين نفسه ، وهذا هو مصدر الشرعية التاريخية للنبوة وتفوقها على السياسة كما كان ينظر إليها ، وكانت تمارس بالفعل .بل إن د/ غليون في هذا الكتاب ينتقد الذين يطلبون الملمح الثابت للدولة الإسلامية، فيرى أنه :من المستحيل أن لا تنطوي حضارة كبرى مثل الإسلام إلا على شكل واحد للدولة رغم تغير الظروف السياسية والتاريخية وتطور الوعي والعقائد والمجتمعات والقوى الفاعلة ، وتبدل حاجات الدولة والمجتمع وتغير التوازنات المحلية الداخلية والإقليمية والعالمية ، وتقدم المدنية الإسلامية ونضجها ، وتطور الوظائف السياسية وغير السياسية للدولة ، والدخول في الأزمات المتعددة التي نقل لنا التاريخ الكثير من أحداثها . لقد عرف الإسلام في الدولة ، الخلافة، والملك والسلطنة، والإمارة، والإقطاع،(..) إن الإسلام لم يخلّف نظرية في الحكم السياسي المدني،كما لم يخلّف نظرية في الفيزياء.وما كان من الممكن أن يفعل ذلك،إذ لو فعل لكان معناه إلغاء فكرة التطور في وسائل الحكم والإدارة وجعل المجتمع الإنساني شيئا جاهزا وثابتا ونظاما ميتا لا يتحول،بل كان معناه إلغاء التاريخ نفسه".. وللحديث بقية.