19 سبتمبر 2025
تسجيلكثير من المفكرين والمصلحين والفلاسفة والمكتشفين العظماء كانوا عرضة للسخرية والتقليل من شأنهم، بل وإتهامهم بالسفاهة والجنون، ومنهم من أُتهم بذلك من أقرب الناس لهم، وكان دورهم في السخرية والنيل منهم الدور الأكبر. فعندما بدأ عالم اللغة العربية العظيم ومؤسس علم العروض وواضع أول معجم في اللغة العربية (معجم العين) الخليل بن أحمد الفراهيدي بحثه عن طريقةٍ يضع بها قواعد للشعر العربي، وكان قد أثار انتباهه أصوات الدق في سوق الصفارين وأصوات الغسالين وهم يدقون على غسيلهم بمضارب خشبية كبيرة، مما جعله يلاحظ ان الإيقاع دائماً يأتي بصوت متكرر له نغمة مميزة، فكان يذهب لبيته ويتدلى في البئر ويقوم بتقليد أصوات الدق، وكذلك يأتي بعدد من الزجاجات ويدق عليها، وكان يقضي الساعات يومياً ذاهلاً منسحباً بنفسه عمن حوله، ويحرك أصابعه ببطء لضبط الأوزان الخمسة عشر لبحور الشعر العربي، وكانت زوجته وهي تشاهد حالته هذه تندب حظها وتلطم على وجهها، وهي تتهمه بالجنون، الذي أتاه فجأة ودون مقدمات ثم أخذت تصب عليه اللعنات جهراً لعدم فائدته وفشله في كسب قوته وقوت عياله. ثم جاء سيبويه، الذي وضع قواعد النحو للغة العربية وألف كتاب (الكتاب)، الذي يعدّ حجة اللغة العربية ودستورها، والذي تتلمذ على يدي الخليل بن أحمد ونذر نفسه مثل أستاذه للعلم وقضى السنين الطويلة في البحث والتأليف دون أن يتزوج، إلى أن قرر الزواج وأخبر زوجته إن العلم أول اهتماماته، لكنها سرعان ما ضاقت ذرعاً بعشقه للكتب وقضائه لوقته كله بين القراءة والتأليف فكان إن طلبت منه أن يذهب ليحضر أغراضاً للبيت، وقامت عندها بحرق كتبه كلها، ليغمى عليه عندما رأى النار تشتعل في كتبه، وبعد أن فاق من الصدمة نادى عليها إن إلحقي بأهلك، ومن ثم قضى بقية حياته دون زوجة. من حسن حظ البشرية أن هؤلاء العظماء مثلما أوتوا من العبقرية الشيء الكثير كذلك أوتوا من الصبر والتصميم والعناد، كما لو كانت قوة ما تسيرهم لتحقيق ما عزموا على تحقيقه، فلا يلتفتون ذات اليمين ولا ذات الشمال لغير ما نذروا النفس على إنجازه وبذلوا سنوات العمر من أجله.