10 سبتمبر 2025

تسجيل

في تفاصيل عملية هدم «الخلافة»

10 أبريل 2024

يعيدنا المقال السابق عن الأمة ونهضتها «النائمة» إلى حديثنا عن مسيرة تشكيل العقل العربي الحديث الذي توقف طويلا منذ بدء مشهد طوفان الأقصى، الذي باتت تطوراته، من إجرام المعتدين وأعوانهم وصمود المقاومين، مسألة تستعصي على الفهم والتحليل، باستثناء أن غزة قد اختارها الله كي تجدد لهذه الأمة دينَها وفق الحديث المعروف. وليس لها من دون الله كاشفة. وكنا قد وصلنا إلى المراحل الأخيرة في هدم الدولة العثمانية أو ربما الخلافة كما كانت تسمي نفسها. ولعلنا قبل المضي قدما في تفاصيل عملية الهدم، نقول إن الخلاف بشأن البناء الذي هُدم، أكان خلافة أم سلطنة، موضوع بحث مستقل، لكننا سنعتمد مُسمى خلافة لأسباب منها أن الشعوب الإسلامية اعتبرتها هكذا لفترات طويلة، ناهيك عن أن كونها خلافة يتسق بقدر أكبر مع مسار العقل العربي المسلم الذي كان بالفعل حتى ما قبل الانهيار يفهم ذاته هكذا، وينضوي تحت هذا الكيان بصفته تلك، بغض النظر عن شرعية المسمى من عدمها. وهناك سبب آخر رسمي وإجرائي هو أن نظام أتاتورك ذاته، الذي هدم ذلك الكيان، احتاج لإلغاء السلطنة ثم الخلافة كل على حدة. فالدولة العثمانية انتهت بصفتها السياسية في نوفمبر 1922، وأزيلت كدولة قائمة بحكم القانون في 24 يوليو1923، بعد معاهدة لوزان، وزالت نهائيًّا في 29 أكتوبر 1923، بقيام «الجمهورية التركية»، أما الخلافة فألغيت رسميا في 3 مارس 1924، بما سُمي مرسوم الجمعية الوطنية الكبرى لتركيا. نعود هنا إلى عملية الانهيار الحضاري والبنيوي لمفهوم وكيان الأمة الإسلامية. وما يهمنا هنا هو الحالة الفكرية التي واكبت عملية الاحتضار وكانت نتاجا للعقل الجمعي العربي المسلم آنذاك، إذ كانت تلك العقلية، في مجملها، هي عقلية الشعوذة والإرجاف والجهل والبعد عن العلم والتحديث بحجة التحرز من الوقوع في الحرام! وكان هذا نتاج أحقاب من التشويه الفكري الذي لم يفتأ أحفاد ابن سبأ يدسونه في نسيج الأمة، سواء كانوا مؤسسين لطوائف وفرق دينية منْحرفة محرِّفة، أو مدارس فلسفية مضللة، أو خبراء ومسؤولين مفسدين في المجالات المختلفة، أو حريما من حريم الأمراء والسلاطين يجمعن كل ذلك، (مما سبق تفصيله). وسنتفاجأ هنا بأن مفكرين كثيرين انتبهوا إلى حالة الانهيار تلك في فترات مبكرة نسبيا في عمر الدولة العثمانية، كما أشرت سابقا، وحاولوا إنقاذ السفينة من الغرق دون جدوى. ففي أواسط القرن 16 أسس السلطان سليمان القانوني وهو في أوج قوته (1536)، لتنازلات غريبة للأوروبيين ضمن ما سُمي «نظام الامتيازات الأجنبية»، بدأت بمعاهدة مع فرنسا تضمنت إجحافا غير مفهوم بحقوق العثمانيين، وميلا غير مفهوم أيضا نحو حماية اليهود، رغم تحذيرات الصدر الأعظم ومطالبته بطردهم (كتاب اليهود في الإمبراطورية العثمانية ص30). ومع ظهور سلبيات تلك التنازلات تنبه مفكرون عثمانيون لأوضاع السلطنة المتردية. وقال باحثون من بينهم، د. محمد أيوب شعبان، إن من أوائل هؤلاء المفكرين، المؤرخ العثماني مصطفى علي أفندي، الذي لخص أسباب التردي آنذاك، بعد 30 عاما فقط من وفاة القانوني، بأنها نتاج بذخ وفساد الطبقة الحاكمة، وقدم مقترحات للسلطان مراد الثالث، في كتاب سماه «مفاخر النفائس في كفاية المجالس» (1595). ثم توالت المقترحات وجاء أهمها بعد نصف قرن تقريبا عندما قدم المؤرخ حاجي خليفة «رسالة إصلاحية» إلى السلطان محمد الرابع، بعنوان «دستور العمل في إصلاح الخلل»(1653). لكن تلك المقترحات للإصلاح ذهبت هباء لأن السلطان مراد الثالث، تحديدا، واحد من الذين وجهوا أشد الطعنات للدولة بخضوعه للقوى الرجعية التي هدمت مرصد واسطرلاب اسطنبول وبخنوعه أمام محظيته صفية التي قدمت سيادة الإمبراطورية على طبق من ذهب للإنجليز، كما أوضحنا سابقا. لذلك ذهب باحثون آخرون، وهو ما نتفق معه، إلى أن من الخطأ تسمية تلك المقترحات، وما نتج عن بعضها بالإصلاحات. ويرفض د. قيس العزاوي في كتابه «التباسات الكتابات العربية عن التاريخ العثماني»، اعتبار «التنظيمات» التي سبق ذكرها إصلاحات لأنها في الواقع زادت التدهور بإضعافها صلاحيات السلاطين المتعاقبين لمصلحة القوى الأوروبية التي فرضت تلك التحديثات «التخريبية» لفائدتها. وكان من عواقبها الخطيرة منح امتيازات أكبر للدول الأجنبية ولرعاياها لم تتوفر للعثمانيين أنفسهم، علاوة على منح الدول الأجنبية حق الإشراف على المنتمين لها دينيا لدى الدولة العثمانية، وهو ما فتح الباب لبدء حركات تبشير واسعة النطاق في الأراضي الإسلامية، وفّرت للمسيحيين الأوروبيين أوضاعا استثنائية جعلتهم وكأنهم يشكلون حكومة داخل الحكومة العثمانية. كما أنها جعلت سفراء الدول الأجنبية شركاء للسلطنة في كل قراراتها السيادية، وحتى العسكرية، وفق ما يذكر د. قيس العزاوي في كتاب آخر بعنوان «الدولة العثمانية قراءة جديدة لعوامل الانحطاط». الأغرب من ذلك أن الأوروبيين، وفق العزاوي وآخرين، بدأوا من أواسط القرن 18 في وضع قواعد فصل الأتراك عن محيطهم الإسلامي من خلال الحديث عن انتماء الأتراك العرقي والقومي وليس الإسلامي وتضخيم الذات التركية على حساب الحس العربي، وتغيير أسس اللغة التركية تمهيدا لإلغاء الحرف العربي. وكان من بين «الشياطين» ولا أقول المفكرين الذين أججوا تلك النزعات التقسيمية التقزيمية، باعتراف برنارد لويس- وتأصيل باحثين من بينهم الباحث التركي نيازي بيركيش في كتابه «تطور العلمانية في تركيا» ثلاثة من يهود أوروبا هم لوملي ديفيد، وديفيد كوهين، وأرمينيز فامبيري. وقد تبلور ذلك لاحقا هدما للكيان الإسلامي العملاق، وتقزيما للإمبراطورية لتصبح مجرد دولة تقل مساحتها كثيرا عن مليون كم2 بعدما بلغت، في أوج مجدها، أكثر من 15 مليون كم2.