14 سبتمبر 2025
تسجيلما زالت الأحداث في العالم العربي تلقي بظلالها على مجرى التطورات الاقتصادية والسياسية في العالم وتهدد بتغيير موازين القوى والتحالفات على مختلف الأصعدة، بل إن وزير النفط الفنزويلي حذر من إمكانية انهيار منظمة الأقطار المصدرة للنفط " أوبك " إذا ما استمرت حالة عدم الاستقرار التي شملت بلدان أعضاء في المنظمة. وعلى الرغم من أن الأسباب الجوهرية لهذه الثورات تكمن في التدهور الاقتصادي الناجم عن الفساد وسوء الإدارة الاقتصادية والتفريط في المال العام، إلا أن المطالبة بالإصلاحات اتخذت منح آخر تمحور حول الإصلاحات الدستورية والسياسية، بل إن مطالب المحتجين في بعض البلدان العربية اقتصرت على الجوانب السياسية من خلال استغلال الأوضاع العامة في العالم العربي لتحقيق أجندات ذات طابع طائفي واثني، مما عمق من الانشقاق داخل هذه المجتمعات وهدد بلدانا أخرى بالتقسيم. لقد سادت معظم البلدان العربية خلال الخمسين عاما الماضية حالة من الغبن الاجتماعي والاقتصادي، بحيث ازدادت الفوارق الاجتماعية وارتفع معدل الفقر وتدهورت المستويات المعيشية وضعفت الطبقة الوسطى في المجتمع والتي تشكل صمام أمان للاستقرار الاجتماعي وبرزت فئة من الأثرياء الجدد الذين لم يراعوا طبيعة مجتمعاتهم وثروات بلدانهم المحدودة. وصاحب ذلك أسباب أخرى موضوعية تمثلت في ارتفاع أعداد السكان والذي تضاعف في العالم العربي خلال العقود الثلاثة الماضية، مما شكل ضغوطا إضافية على الموارد المتاحة التي بدأت تعاني من النقص وارتفاع الأسعار، مما أسهم في المزيد من التدهور في الأوضاع المعيشية للسكان. وشمل هذا التدهور في مستويات المعيشة بلدانا غنية، كليبيا والعراق وإيران والجزائر والتي تعاني شعوبها من الفقر والهجرة للعمل في الخارج، في الوقت الذي توظف فيه قدرات بلدانهم إما للإنفاق العسكري الباهظ وغير المنتج وإما للإثراء غير المشروع والذي يتلاشى مع تغير هذه الأنظمة. وبسبب سوء الإدارة والفساد تبخرت مئات المليارات من البلدان النامية والتي لا يعرف مصيرها حتى الآن، فثروات ماركوس الفيليبين قدرت بأربعين مليار دولار، وكذلك ثروة سوهارتو إندونيسيا، أما ثروات المسؤولين التونسيين والمصريين والليبيين، فقد تجاوزت في مجموعها 250 مليار دولار، وهو مبلغ يكفي لإحداث نقلة اقتصادية كبيرة في هذه البلدان الثلاث. وللأسف، فإن استرداد هذه الأموال سيكون صعبا للغاية بسبب التعقيدات المحيطة بحركتها، فالبنوك الغربية الموظفة فيها هذه الأموال بصورة أساسية لا تريد فقدها بأي شكل من الأشكال، وذلك رغم عمليات التجميد واسترداد جزء بسيط منها. هذه الأوضاع المعيشية تمثل الأسباب الحقيقية التي حركت الملايين في مختلف المدن العربية، أما "الفيس بوك" و "التويتر"، فقد كانت عوامل مساعدة لم يكن بإمكانها عمل الكثير لولا نضوج العوامل الداخلية الموضوعية المتمثلة في الفساد وتدني مستويات المعيشة ونقص الخدمات الأساسية والبطالة. لذلك، فإن المهام الأساسية التي تنتظر الأنظمة الجديدة في البلدان العربية، هي مهام أصعب من الثورات ذاتها وأكثر تعقيدا، إذ أنها ترتبط بمرحلة البناء وحسن إدارة التنمية الاقتصادية والاجتماعية وتسخير الموارد المتاحة - وهي كثيرة - للتنوع الاقتصادي والتنمية لتطوير البنى التحتية اللازمة للنمو وتنفيذ مشاريع حيوية لرفع مستويات المعيشة وتوفير فرص العمل والحد من هدر المال العام، فالإصلاحات الدستورية والسياسية وحدها لن تلبي طموحات الشعوب العربية التي تلمس مدى التقدم الاقتصادي الذي تحققه العديد من بلدان العالم النامي، كدول مجلس التعاون الخليجي والهند والبرازيل. وإذا كان البعض يأخذ على دول المجلس بطء إصلاحاتها المجتمعية، فإن التقدم الكبير الذي حققته في المجال الاقتصادي أدى إلى تصنيفها دوليا ضمن البلدان الناشئة سريعة النمو، حيث سيساهم ذلك في تحقيق التقدم في المجالات الأخرى، إذ وضعت دول المجلس الأسس المادية الاقتصادية وعززت من الاستقرار الاجتماعي واللذين يعتبران ضروريين لمرحلة التنمية القادمة، مما يتطلب أن تستفيد البلدان العربية الأخرى من التجربة التنموية الخليجية والتي وضعت دول مجلس التعاون الخليجي على رأس قائمة تصنيف الأمم المتحدة للتنمية البشرية إلى جانب البلدان الصناعية المتقدمة. نعم ليس من السهل تحقيق ذلك في العديد من البلدان العربية، إلا أن تجارب بلدان نامية أخرى، كماليزيا وكوريا الجنوبية تقدم تجربة غنية، وذلك إذا ما وجهت الشعوب والأنظمة العربية اهتمامها للتنمية بدلا من الصراعات الطائفية والعرقية المقيتة.