14 سبتمبر 2025
تسجيلبعد أن انهارت الدولة الأموية العظيمة وقامت على أنقاضها الدولة العباسية تفرق بنو أمية في مشارق الأرض ومغاربها، وكان العباسيون يبحثون عن الأمويين فمن وجدوا منهم من يصلح للحكم قتلوه دون أن يتعرضوا للنساء والأطفال، وكان في من تعرضوا لهذا الوضع العصيب رجل يقال له (عبدالرحمن بن معاوية بن هشام بن عبدالملك)، فهو إذن حفيد أحد أكبر حكام بني أمية مما يجعله على رأس قائمة المطلوبين للدولة العباسية، وقد كان عمره حينها تسعة عشر عاماً فقط لما عرف العباسيون مكانه ففر هو وأخوه الصغير محاولين الهروب حتى ألجأوهما إلى نهر الفرات فعبراه سباحة ولكن شاء الله أن يقبض العباسيون على الأخ أصغر ويقتلونه، وعبدالرحمن هذا في عرض النهر يهرب سابحاً حتى قطع إلى الضفة الأخرى، ولك أن تتخيل هذه اللحظات التي تقصم ظهر أشد الرجال صلابة عندما خرج من النهر شريداً طريداً يرى أخاه يقتل أمام عينيه ولا يستطيع عمل شيء لإنقاذه. استمر هروب هذا الفتى قرابة الست سنوات، فر فيها من العراق إلى الشام والحجاز ثم مصر إلى أن لجأ لبعض أخواله من البربر في ليبيا، واستطاع خلال هذه الفترة أن يجتمع ببعض أهله الأقربين، ومن ضمنهم كان مولاه المخلص "بدر" الذي لعب دوراً محورياً في حياة هذا الرجل إذ عبر إلى الأندلس بأمر سيده عبدالرحمن الذي أخذ هو بدوره يراسل الأمويين ويجمع شتاتهم من أقطار الأرض، في حين كان "بدر" يقوم بأمر الدعوة الأموية في الأندلس إلى أن تهيأ الوضع لعبدالرحمن بن معاوية الذي عرف في التاريخ بـ "عبدالرحمن الداخل"، لأنه دخل الأندلس وحيداً وهو في الخامسة والعشرين من عمره، واستطاع أن يؤسس فيها للحكم الأموي من جديد فحكم أكثر من ثلاثين عاماً واستمر الحكم في عقبه قرابة الأربعمائة عام. ولما فرغ بدر من الاستعداد لقدوم سيده أرسل له رجلاً ليبلغه بالقدوم، فقال له عبدالرحمن: ما اسمك؟ فقال: غالب التميمي، فقال غلبنا وتم أمرنا بإذن الله. كان رحمه الله طويل القامة، نحيل الجسم، أعور العين خفيف العارضين أشقر الشعر وكان يجدله في ضفيرتين على طريقة العرب، ولابن حيان الأندلسي وصف بليغ لشخصية عبدالرحمن الداخل، أذكر من جملة قوله: "كان عبدالرحمن راجح العقل، راسخ الحلم، واسع العلم، متصل الحركة، لا يخلد إلى راحة، ولا يسكن إلى دعة، بعيد الغور، شديد الحدة، قليل الطمأنينة، بليغاً مفوهاً، شاعراً محسناً، سمحاً سخياً، طلق اللسان، وكان قد أعطي هيبة من وليه وعدوه، وكان يحضر الجنائز ويصلي عليها ومع رجاحة عقله وسعة علمه كان لا ينفرد برأيه، فإذا اجتمعت الشورى على رأي كان نافذ العزم في إنفاذه". وفي معركة المسارة التي انتصر فيها، يروى أنه قبل المعركة رأى رجال الجيش هذا الأمير على فرس أشهب عظيم محاطاً باتباعه ومواليه، فسرت شائعة في الجيش مفادها أن عبدالرحمن الداخل غريب عن هذه الأرض فلو انهزمنا فرّ على ظهر فرسه العظيم وتركنا نواجه الموت وحدنا، فلما وصلت هذه الإشاعة إلى عبدالرحمن الداخل توجه فوراً إلى أحد قادة الجيش من أهل الأندلس وقال له: هلّا بادلتني بغلتك بفرسي هذا؟ فإنه فرس جامح وأنا رجل رامٍ لا استطيع الرمي من على ظهر هذا الفرس (لقوته وجموحه)، وبالفعل تمت المبادلة قبل المعركة فلما رأى الجيش فعل أميرهم عرفوا أنه ليس فعل من ينوي الهرب فالتهبت قلوبهم حمية وشجاعة من شجاعة قائدهم الذي كان عمره حينها ستة وعشرين عاماً فقط، وهكذا هم القادة العظام الذين يثبتون ثبات الجبال في وجه أخطر الأزمات وأشدها. وبعد أن انتهت المعركة بفوز ساحق لعبدالرحمن الداخل وشرع جنوده يستعدّون لمطاردة الفارين من جيش العدو المهزوم منعهم من ذلك قائلا: "لا تتّبعوهم، اتركوهم، لا تستأصلوا شأفة أعداء ترجون صداقتهم، واستبقوهم لأشد عداوة منهم". فانظر إلى بعد نظر هذا الرجل العجيب وكيف أنه نزع الحقد من قلبه فخلّد التاريخ سيرته، ولكن وبعيداً عن أي محور آخر، فالسؤال الذي أريد تركه بين يدي القارئ الكريم هو: هل لو كان عبدالرحمن الداخل محبطاً مهزوماً نفسياً، فهل كان يستطيع عمل ما عمل؟، خصوصا أنه رأى انهيار دولته أمامه ومقتل أخيه وما تلا ذلك من صعوبات؟، وهل تعتقد أنه كان يمارس ما نراه اليوم من جلد الذات عند بعض مثقفينا الذين لا ينفكون يحطمون نفسيات شبابنا بزعم ادعاء الحكمة والعمق وبعد النظر؟، أم هل كان يحمل روحاً متفائلة أوصلته إلى ما وصل إليه من مجد ورفعه؟، أترك الجواب لكم. لا يحمل الحقد من تعلو به الرتب... ولا ينال العلا من طبعه الغضب [email protected]