14 سبتمبر 2025
تسجيلأبدأ بالترحم على الطيار الأردني معاذ الكساسبة وأقرأ فاتحة الكتاب على روحه المزهقة وهو جرم مستنكر حتى بمنطق الشريعة السمحاء التي تأمرنا بحسن معاملة الأسير الأعزل وأعزي أهله وذويه كما فعل مجلس نواب الشعب التونسي يوم اجتماعه الأول بعد انتخابه لكنني شخصيا حين ترحمت على الطيار الأردني نويت في قرارة نفسي ومناجاتي مع الملكوت أن تشمل الرحمة كل المحروقين المسلمين قبل معاذ وتمنيت لو قرأ نوابنا الكرام نفس الفاتحة في نفس اللحظة على أرواح كل ضحايا الحرق من المسلمين في هذا الزمن الجائر لأن النار التي التهمت جسم معاذ لا تختلف عن النار التي أشعلها الصهاينة في جسم الطفل محمد بوخضير الفلسطيني ذي الأربعة عشر عاما يوم 16 سبتمبر 2014 بعد أن اختطفوه من أمام مدرسته وكان عذابه أشد من عذاب معاذ لأن المستوطنين أضافوا إبداعا جديدا للتفنن في حرق الجسد الطاهر البريء فصبوا البنزين في فم محمد حتى ارتوى ثم أوقدوا النار ليروا هذا الطفل المسلم يشتعل من الداخل والخارج ويستمتعوا بالمشهد ويصوروه وبالطبع لم يكن محمد بوخضير طيارا يقذف القنابل ولا حتى مجند مسلح بل كان تلميذا آمنا يحمل شنطة المدرسة ويحلم بمستقبل عادي في وطن عادي ثم حين عرفت إسرائيل أن مضرم النار في الطفل اسمه يوسف بن دافيد قالت إنه مختل عقليا! وتمنيت لو وقف نوابنا المحترمون في نفس اللحظة ترحما على روح محروق آخر هو الشيخ الفقيه المعاق ذي الكرسي المتحرك أحمد ياسين الذي قتله الجيش الإسرائيلي في غزة الصابرة فجر يوم 27 مارس 2004 وهو يغادر المسجد بعد أداء صلاة الفجر بصاروخ حارق أطلقوه من طائرة أباتشي فتحول الجسد الطاهر إلى رماد متفحم ما عدا وجه الشيخ الشهيد الذي كان مجللا بابتسامة الرضا بالشهادة والفرح بها كما شهد الشهود العيان الذين رفعوا جثمانه المحروق وكانت النار هي نفس النار بل أشد وأقسى لأن الشيخ ياسين لم يكن حاملا للسلاح ولا طيارا بل كان معتكفا مصليا خاشعا بين يدي خالقه طالبا حقه وحق شعبه في بقية وطن مسروق!! وكنت أتمنى لو توسع نوابنا في ترحمهم خالصي النية في الفاتحة ليشمل دعاؤهم المستجاب بإذن الله روح الشهيد البطل المحروق هو أيضا الدكتور عبد العزيز الرنتيسي الذي صعقه صاروخ ملتهب وهو في سيارته بغزة يوم 17 أبريل 2004 بعد أيام قليلة من استشهاد الشيخ ياسين وهو الطبيب خريج جامعة القاهرة وأب ستة عيال وكان ذنبه الوحيد هو اقتراف "جريمة المقاومة للاحتلال" بعد أن عانى سنوات السجون والمعتقلات. ثم هل وصلتنا رائحة الأجسام الفلسطينية المحروقة في غزة منذ شهور مضت تحت وابل القنابل الإسرائيلية لأن تلك القنابل كانت مزودة بالفسفور الأبيض بشهادة أممية أي تلقي بها الطائرات المقاتلة لتحرق؟ وعدد المحروقين من أطفال ونساء وشيوخ تجاوز الألفين! نعم ألفان لم يكونوا مقاتلين بل هم مواطنون عزل بنصف وطن راضون بحكم الله منتظرون عدله لأنه يمهل ولا يهمل. تمنيت لو شملت فاتحة الكتاب الخاشعة التي تلاها بتأثر نواب الشعب أرواحهم الزكية حتى تكتمل الرحمة المطلوبة تحت قبة قصر باردو لتظلل أرواح هؤلاء الشهداء جميعا. كما تمنيت لو أن فاتحة الكتاب اتسعت كلماتها المجيدة لعشرة آلاف محروق من مسلمي جمهورية إفريقيا الوسطى ومسلمي بورما ومسلمي البوسنة والهرسك الذين قضوا نحبهم ملقى بهم في جحيم بشري أوقده غلاة الصليبيين من نفس جنسيتهم بعد أن أوثقوهم وألبسوهم عجلات مطاطية وأشعلوا النار فيهم أحياء لمجرد أنهم مسلمون والعالم يتفرج والمجرمون يسجلون عمليات التطهير الديني حرقا أو رميا بالرصاص أو قتلا بالخناجر بالصورة والصوت بهواتفهم الجوالة ثم ينشرونها مزهوين بما فعلوا على مواقع التواصل الاجتماعي ولا حياة لمن تنادي من بين المترحمين المحترفين لحقوق الإنسان من المجتمع المدني الدولي في الغرب وهي الجمعيات الإنسانية التي عودتنا على إصدار بيانات الاستنكار والشجب حين ينتهك حق أو يمس بشر من غير المسلمين! ولا أتذكر أن جمعية أو هيئة حقوقية غربية تذكرت هؤلاء الأفارقة والآسيويين والأوروبيين المسلمين برحمة أو حتى باستنكار دبلوماسي لمجرد رفع الملامة بل إن دولا مسيحية غربية تسترت على القتلة وتواصلت الإبادة إلى اليوم وليس للمسلمين كما لليهود والنصارى رابط عقدي (من العقيدة) يحميهم أو يردع قاتليهم وحارقيهم! فالنار التي التهمت أجساد هؤلاء هي نفس النار ورائحة اللحم البشري المشوي هي نفس الرائحة لكن الأنوف لم تشمها فقد أصيبت بالزكام المؤقت حتى تؤمر بالشم حين يختار لنا الغرب المتطرف ضحية نبكيها ونترحم عليها ونتظاهر في عواصم الغرب انتصارا لها وحينها تستيقظ فينا عاطفة الرحمة التي كانت غائبة مغيبة فنهب بأصواتنا العالية منددين لنقرأ فاتحة الكتاب في نوع من أنواع التمييز الجائر بين الضحايا وكأننا نعطي لأعدائنا رخصة في مواصلة الحرق. إن ما يعنيني اليوم هو أن تصحو الضمائر لأن السلطة فتنة (جربت بعضها واعتبرت بل وتبت عنها) أن تستيقظ فينا روح العدل في التعامل مع قضايانا وانظر حولك يا قارئي الكريم وأجل البصر كرتين نحو العالم العربي لتدرك مدى التردي الحضاري الذي وقعنا فيه باسم الأيديولوجيات المستوردة وتحت شعارات الطائفية والقبلية فاعتقدنا أننا بلجوئنا إلى بالونات نتقوقع فيها ننجو من مخاطر الانهيار المبرمج لنا من خارج حدودنا كالذي يحدث في اليمن اليوم من تدمير ممنهج لما تبقى من مؤسسات الدولة الهشة بعد نقض الحوثيين لمعاهدة خليجية وافق عليها الجميع حين وقعوها لحل معضلة ما بعد علي عبد الله صالح وهاهو اليمن يسقط فيما هو أخطر من الفراغ الدستوري أي على أبواب الفتنة ثم انظر حولك للعراق الممزق ولسوريا الشهيدة ولليبيا النازفة لتدرك حجم المأساة العربية هذه المأساة التي سببها الأهم هو ضياع النخب الحاكمة والمفكرة في متاهات الانقسام وغياهب التجزئة. ولم يكن ظهور المفاجأة الداعشية إلا جزءا مما يخطط لنا باعتبارنا الرجل المريض في بداية هذا القرن وهي ظاهرة لا تشذ عن العنف العام والشامل والسائد الذي يطبع العلاقات الدولية بطابع القسوة الوحشية