14 سبتمبر 2025
تسجيلمشتعلا قلبي أكتب، لا تكف نبضاته عن إرسال دويها إلى باقي أنحاء الجسد، تكاد البحار تفقد نوارسها والجبال تتيبس ثم تتفتت، والرؤوس متجهة إلى لا شيء، هل هي المحروسة التي أعشق؟أم وطن تسيل الدماء منه وفيه ويرسل عشرات الأرواح كل يوم إلى دار البقاء؟من يوقظ الفتنة؟ أليس ثمة رشيد يبعث بعين العقل كي تميز السلوك والأقوال والأفعال. دماء من تراق في الصباحات الأولى من اليوم ثم تتمدد حتى المساءات؟ ثمة حب مفقود ومودة مسافرة ورحمة غائبة أو مغيبة قسرا، ثم أبواب للحلم أغلقت. لم تعد مدن المحروسة قادرة على استيعاب الخلاف، فسرعان ما تفرز الدماء عنوانا يتجه إليه الفرقاء، فيتوقفون بمحطته، تتوزع الدماء على القبائل، لا تعرف من القاتل ومن المقتول، كلاهما من الوطن نفسه ومن رائحة التاريخ نفسها.أصرخ في الطرقات والشوارع والميادين المغلقة والمفتوحة: أين أهل المحروسة التي أعشق؟ أين الصباحات التي يتبادلون فيها مفردات المحبة التي تشي بالرغبة القوية في معانقة الحياة والقدرة على تجاوز مكابداتها اليومية؟.غابت الابتسامات الطالعة من أعماق الأفئدة ومن غيابات جب الروح ومن أصلاب الرجال ومن أرحام النسوة، مرسومة على قسمات وجوه الصبايا والورود التي تعلن عن اشتهائها لشروق الشمس وحثها على إرسال الدفء وغسيل ما تبقى من عتمة الليل وإنهاك الوجع الذي فرض سطوته في الظلام.انتابت القسمات التي اعتادت الاستقواء على الألم ملامح غريبة تخاصم الفجر وانبثاق الندى على أوراق النباتات والأشجار.بات النهر حزينا، أطالع وجهه كل صباح فأشعر أنه فقد بهاءه القديم، موجه ساكن، ألوان قوس قزح التي كانت تنام على صفحته تحولت إلى لا شيء، إلى لا لون، دهستها حالة السكون، أغرقتها في أعماق النهر، لم يعد يكشف عن أسراره أو يعزف ألحان الصباح والمساء المدهشة التي كان يرقص على تنويعاتها أهل المحروسة. باتوا أسرى للأنغام الراكدة التي تخرج بين الحين والآخر تصيب البشر بالصمت والبقاء خارج دوائر البهجة التي كان يرسمها النهر على مدى التاريخ، النيل حزين لأن الدماء صارت أكثر تدفقا وأكثر حضورا من مياهه التي هي عنوان الحياة في المحروسة، سألته ذات مرة فأجابني النيل والوجع مرسوم بشواطئه: كنت أسهم في ارتواء الحقول والحدائق فتفرغ الناس لسكب الدماء فيها لم يعد لمائي وزن ولا لسواحلي قيمة ولا لموجي حضور.تركت النيل، سألت الحقول فأجابتني: إنها لعنة الدم حلت على أوراق النباتات التي أحرص على اخضرارها، وسألت الحدائق فجاءت إجابتها لتستقر في قلبي وجعا وفي وجهي ألما: لم تعد ورودي مطلوبة للعشاق أو المحبين أو منفذا للهدايا، لكنها أضحت مطلوبة لهدرها من قبل حاملي السلاح والمولوتوف والمتفجرات والسيارات المفخخة وراكبي الدراجات البخارية، يطلقون قنابلهم وعبواتهم الناسفة فتقتل البشر وتدمر الأماكن والمنشآت.سألت الوجوه، فلم يجبني أصحابها، فقد غدت دونما ملامح والألسنة سكنت خانة الصمت والأفواه مغلقة والآذان غير قادرة على أن تنصت للحق وللحقيقة ولأصوات الوطن والعيون أصابها رزاز الغازات المسيلة للدموع ودخان القنابل ورائحة الرصاص. بكيت في صمت، الوطن ليس هو الوطن والنيل استباحته العناكب، والأشجار التهمتها الوحوش المدمرة، والحدائق اندثرت والكواكب انتثرت والمحروسة يكاد أهلها يئدونها بأيديهم تصرخ فيهم لكنهم فقدوا القدرة على الاستجابة السريعة، الغسق هو الجدار العازل بين الحقيقة والوهم. صم بكم عمي، من يغتالون المحروسة، من يصبون الزيت على نيرانها المشتعلة لكي لا تتوقف، غلت أيدي من يقذف بالدماء في وجوه البشر، فتسرق أرواح الأبرياء وتصيب الحنايا بالوجع الأبدي الذي لا ينتهي. أتساءل: أي قلب يحمله ذلك الذي يتوجه بقنابله وعبواته الناسفة ورصاصه ليدمر قطعة من الوطن أو يقتل بشرا، هل ثمة جهاد هنا؟ الجهاد الحقيقي هناك خلف الحدود الشرقية، حيث الكيان العدواني الاستيطاني.من يبرر ألوان القتل؟ أي دين يبيحها؟ أتساءل مرة أخرى: تاريخ المحروسة مضت عليه سبعة آلاف عام، فهل شهدت خلالها مثلما تشهده الآن. تزاحمني الدماء وآخرها التي سكبت فوق الكوبري العلوي القريب من منزلي بالجيزة، بناتي أصابهن الرعب عندما استيقظن صباح الجمعة الفائتة على صوت دوي انفجار هائل وقبلها بأسبوعين استمعنا لدوي أكثر ضخامة وكان على بعد منا ربما بعشرة كيلو مترات والذي أصاب مديرية أمن العاصمة، فمزق واجهتها وبعضا من أجزاء مبناها، كما أوشك على تدمير متحف الفن الإسلامي. هي أشياء لا تشترى على حد تعبير شاعرنا الجنوبي أمل دنقل، لكنها تنبع من الروح وعندما تغادر روح الوطن الجسد فما الذي بوسعه أن يفعله جسد مهشم، مجهض الأحلام التي يغتالها الدم الذي يتدفق في أرضها.هل تستحق المحروسة رائحة الدم ورائحة الموت التي تفرض حضورها في أيامها ومواسمها وحاراتها وطرقاتها وجسورها ومنازل ساكنيها؟لا بالتأكيد، فهي وطن ليس مثل الأوطان الأخرى، هي مختلقة مغايرة روحها وجوهرها وعبق تاريخها وعمقها الحضاري استثناء في المعمورة، اسألوا القرآن عنها وكذلك الإنجيل وكذلك التوراة، هي قدس أقداس الأوطان وسر بهجة التاريخ عندما يتعانق مع الجغرافيا، هي حبلى دوما بالحكايات والانتصارات والانكسارات، بيد أنها قادرة على تغيير مسارها إلى الوجهة الأخرى، وجهة الفوز كانت وما زالت وستبقى ومن يسعى إلى الإضرار بها تصيبه اللعنة الأبدية فيسقط في براثن النسيان وغيابات جب التاريخ. أمتطي عشق المحروسة رغم أنها تؤلمني من فرط الفوضى التي يئن جسدها منها وهي فوضى مقصودة حتى يتوارى جوهرها. كما تؤلمني بعنت طرقاتها التي باتت مصدرا لعبث مروري غير مسبوق ودونما مثيل. هي في حاجة - المحروسة - إلى استعادة فعل المحبة بين ساكنيها من دون إقصاء على أرضية ترفض سكب الدماء، هي في حاجة إلى أن يحبها بنوها، يعشقوها يرسموها، ليس على قسمات الوجوه فحسب وإنما يحولونها إلى نبض لأفئدتهم ونسائم لصدورهم وحدائق تنسمته بها عيونهم، فمتى يا رب يفعلون؟ أنقذهم قبل أن تتفاقم لغة الدم.السطر الأخير: قلبي ليس من ذهب هو فيض مشاعر متكئا على حدائق العشق ترى لو أنني مسافر إليك أين ستكون إقامتي؟ في المسافة بين العينين أم في مساحات الشهد عند النهر النائي أو لدى نوارس البحرصحفي عربي من مصر